[تفسير قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب)]
قال عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:٧]، أي: إذا فرغت من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك، فانصب، أي: خض في عمل آخر واتعب فيه، فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب لما تجنيه من ثمرة العمل.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى بعدما بين أنه لا سبيل إلى الفراغ عند المؤمن الحق، يقول: المؤمن لا يعرف الفراغ، فموضوع ما يسمى ضبط الفراغ، وتجزية وقت الفراغ، حتى يقول قائلهم: أنا أقتل الوقت، وفي الحقيقة هو يقتل نفسه.
النصب: هو التعب بعد الاجتهاد، يقول تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:٢ - ٣] أي: أنها تعمل وتكد وتجتهد وتكدح فيترتب عليه النصب.
وقد يكون النصب للدنيا أو للآخرة.
فلذلك اختلف في المقصود من قوله هنا: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)، فقال بعضهم: فانصب في الدعاء، أو في الذكر بعد الفراغ من الصلاة، وقيل: إذا فرغت من الفريضة فانصب في النافلة.
يعني: فاجتهد فيه ما استطعت، والذي يشهد له القرآن، أنه توجيه عام للأخذ بحظ الآخرة، بعد الفراغ من عمل الدنيا، كما في مثل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩]، وقال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:٦]، أي: لأنها وقت الفراغ من عمل النهار وسكون الليل، وقال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:١ - ٢]، يعني: أديت مهمة تبليغ الدين، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:٣]، فيكون وقته كله مشغولاً إما للدين وإما للدنيا.
وفي قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم، حيث لم تترك للمسلم فراغاً في وقته؛ لأنه إما في عمل للدنيا وإما في عمل للآخرة.
ولذلك مر بعض السلف بأناس يلهون فقال: ما بهذا أُمر الفارغ.
يعني: من فرغ من العمل ما أمر باللعب واللهو، إنما أمر بالنصب وتلا قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ).
وعن عمر أنه قال: (إني لأكره لأحدكم أن يكون خالياً سبهللاً، لا في عمل دنيا ولا دين).
لذلك السلف لم يعرفوا مشكلة الفراغ وضياع الوقت، فالوقت هذا أعظم نعمة كما قال عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
فالفراغ رأس مال الإنسان وهو الوقت، فمن جمع الله له الأمرين: الصحة والفراغ، فهما أعظم نعمة، ومغبون من ضيع الصحة والفراغ، ممكن واحد معه صحة، لكن ليس عنده فراغ، ممكن واحد عنده فراغ، لكنه مبتلى بالأمراض والأوجاع، فلا يستطيع استثمار هذه النعمة، لكن إذا جمع الله لك هاتين النعمتين: الصحة والفراغ؛ فاعلم أنهما أعظم نعمة.
فلذلك ينبغي على الإنسان أن يحافظ على الوقت والصحة.
وقد ذكر الألوسي في قوله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ قراءة شاذة: (فإذا فرغت فانْصِب) بمعنى التنصيب، يعني: عيِّن الإمام من بعدك.
وهذا هو مذهب الشيعة الضلال، فالشيعة قالوا: (فَإِذَا فَرَغْتَ) إذا فرغت من أعباء النبوة وأديت ما عليك، فنصب علياً إماماً، هذا من إلحادهم في آيات الله وما أكثرها.
وقال الألوسي: ليس الأمر متعيناً بـ علي.
الألوسي يرد على الشيعة، يقول لهم: ليس الأمر متعيناً بـ علي؛ لأن السني قد يقول: معنى قوله: (فانصب) يعني: نصب أبا بكر رضي الله عنه، كذلك إذا احتج الشيعي بما كان في غدير خم، احتج السني بأن وقته لم يكن وقت الفراغ من النبوة، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) وهذا كان بعد بعد حادثة غدير خم، وكان قرب فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة؛ لأنه كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم، فأولى أن يكون هذا في حق أبي بكر.
وعلى كل حال إذا كان الشيعة يحتجون بهذه القراءة، فيكفي لرد احتجاجهم أنها شاذة، وتتبع الشواذ قريب من التأويل المسمى باللعب عند علماء التفسير، وهو صرف اللفظ عن ظاهره لا لقرينة صارفة ولا علاقة رابطة.
ولقد استطرد الشيخ عطية سالم وذكر صوراً أخرى من اللعب في التأويل في هذه الآية الكريمة، يقول: ومن اللعب في التأويل في هذه الآية ما يفعله بعض العوام، يقول: رأيت رجلاً عامياً عادياً قد لبس حلة كاملة من عمامة وثوب قصير وحزام جميل مما يسمونه نصبة -النصبة يعني: بدلة كاملة- فقال له رجل: ما هذه النصبة يا فلان؟ فقال له: لما فرغت من عملي نصبت كما قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ.
وسمعت آخر يتوجع لقلة ما في يده، ويقول: يا فلان! ألا تعرف لي شخصاً أنصب عليه، يعني: أقترض منه، فقلت له: ولم تنصب عليه، والنصب كذب وحرام؟ فقال: إذا لم يكن عند الإنسان شيء، ويده خالية فلا بأس، إذا فرغت يدك من الأموال (فانصب) فلا بأس؛ لأن الله قال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وهذا وأمثاله مما يتجرأ عليه العامة لجهلهم، أو أصحاب الأهواء لضلالهم.
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)، أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة، ومن هذا القبيل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء).