[تفسير قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين)]
ثم قال تبارك وتعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:١١٨].
قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) ذكر الله هذا بعدما نهى في الآيتين السابقتين عن اتباع وطاعة الكثرة إذا كانت ضالة، وذلك في قوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:١١٦ - ١١٧]، وكثيراً جداً ما يقترن في القرآن الأمر بالتوحيد مع النهي عن مظاهر الشرك في موضوع النسك والذبائح؛ لأن موضوع الذبائح من أجل مظاهر الشرك في العبادة التي مارسها المشركون مع أصنامهم، فلذلك نجد أنه بعد أن ذكر القضايا في الكلام على القضية الكبرى -وقضية صد هؤلاء عن سبيل الله وعن التوحيد والعقيدة- عقب مباشرة بربطها بالنهي عن هذه المظاهر.
وهذا معروف، فإننا نجد كل من يقع في الشرك يقع في الذبح لغير الله، ونجد الذين يعبدون البدوي ونحوه دائماً يمارسون مظاهر شركية فيها صرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، بل يقع عندهم الحلق تشبيهاً بمناسك الحج والعياذ بالله! ويحسبون أنهم على شيء، فكما أنه يحلق الحاج أو المعتمر ويقصر في الحرم كذلك يفعل هؤلاء الضالون الضائعون، وعندهم مناسك، وترى الحلاقين موجودين في طنطا وفي نحوها من الأماكن، وفي الموالد يحلقون للناس رءوسهم في مناسك حجهم إلى البدوي -والعياذ بالله! - وكذلك الذبح معروف عندهم، وما زال موجوداً إلى الآن، والله المستعان.
وتجدهم يصحبون معهم الهدي من أطراف الأرض، ويأتون به لأجل البدوي، فلا يُركب ولا يُحلب ولا يُستعمل؛ لأن هذا من أجل البدوي في زعمهم، وهذا كالسوائب والبحائر التي ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة.
يقول تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:١١٨] وهذا أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين؛ لأن هؤلاء يضلونك عن سبيل الله.
ومن مظاهر الإضلال تحليل الحرام وتحريم الحلال، وذلك أنهم خاصموا وجادلوا المسلمين، فقالوا: ما ذبحتم أنتم تأكلونه.
وهذا من وحي الشياطين إليهم، وهذا أخرجه النسائي عن ابن عباس، وفيه: فنزلت هذه الآية: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:١١٨].
والمعنى: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه؛ لرفعه تنجيس الموت إياه؛ لأنه هو المانع من الأكل، ولأنه لو مات حتف أنفه فإن الموت ينجسه، في حين أن الذبح بالسكين يزيل التنجيس بالموت عنه؛ لأن هذا التنجيس هو المانع من أكله.
أي: كلوا مما ذكر اسم الله عليه لا مما ذكر عليه اسم غير الله، ولا مما مات حتف أنفه.
فإذاً النهي هنا هو عن أكل الذي لم يذكر اسم الله عليه، يعني: كلوا مما ذكر اسم الله عليه مما ذكيتموه، أي: بجانب الشروط التي في عملية التذكية نفسها؛ لأن هناك شروطاً في الذابح وشروطاً في المذبوح، فلابد -مثلاً- من أن يكون المذبوح حلالاً، فلا يكون خنزيراً، ولا يكون ذا ناب من السباع ونحو ذلك مما حرم الله تبارك وتعالى، والذابح لابد من أن يكون إما مسلماً وإما كتابياً، وعملية الذبح فيها شروط معينة.
فالمقصود: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه وكان الذابح مسلماً والمذبوح حلالاً، فلا يجوز أن تأتي بخنزير -مثلاً- وتسمي عليه وتذبحه، ولا يصح أن يأتي ملحد ويذبح، حتى ولو قال: بسم الله.
فإن ذبيحة المشرك والوثني لا تحل.
ولا تأكلوا مما ذكر عليه اسم غير الله، ولا تأكلوا أيضاً مما مات حتف أنفه.
وقوله: ((إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ)) أي أن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله واجتناب ما حرمه الله سبحانه وتعالى، بخلاف من يكفر بآيات الله، فإنه يحرم الحلال ويحلل الحرام.