تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ما لم تسطع عليه صبراً)
يقول تبارك وتعالى على لسان الخضر عليه السلام: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٧٩ - ٨٢].
((أما السفينة)) التي خرقتها، ((فكانت لمساكين يعملون في البحر)) أي: لفقراء يحترفون العمل في البحر لنقل الناس من ساحل إلى آخر، ((فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً))، أي: إنما خرقتها لأعيبها؛ لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة يأخذ كل سفينة جيدة غصباً، فأردت أن أعيبها لأرده عنها بعيبها؛ لأنه إذا كان فيها هذا العيب لن يأخذها، لكن إذا كانت السفينة صالحة -كما قال ابن عباس - فإنهم يأخذونها غصباً وظلماً وعدواناً.
يقول الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن ذلك الملك يأخذ كل سفينة صحيحة كانت أو معيبة، ولكنه يفهم من آية أخرى أنه لا يأخذ المعيبة وهي قوله: ((فأردت أن أعيبها))، أي: لئلا يأخذها هذا الملك، وذلك هو الحكمة في خرقه لها المذكور في قوله: ((حتى إذا ركبا في السفينة خرقها)) ثم بين أن قصده بخرقها سلامتها لأهلها من أخذ ذلك الملك الغاصب؛ لأن عيبها يزهده فيها.
ولأجل ما ذكرنا كانت هذه الآية الكريمة مثالاً عند علماء العربية لحذف النعت، أي: وكان وارءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غير معيبة، بدليل ما ذكرنا، كما سبق في قوله: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} [الإسراء:٥٨]، واسم ذلك الملك: هدد بن بدر، وقوله: (وراءهم)، أي: أمامهم، كما تقدم في سورة إبراهيم عليه السلام، في قول الله: ((مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ)) [إبراهيم:١٦] يعني: من أمامه.
((وأما الغلام)) الذي قتلته، ((فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا))، لو تركناه حياً، ((أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا))، أي: أن ينزل بهما طغيانه وكفره، ويلحقه بهما لكونه طبع على ذلك، فيخشى أن يعديهما بدائه؛ إذ الكفر ينتقل منه إليهما فيفتنهما عن دينهما، ((فَأَرَدْنَا)) بقتله، ((أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً))، أي: طهارة عن الكفر والطغيان، وهذا يشير إلى أن الإيمان تطهير وتزكية، ((خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا)) أي: رحمة بأبويه وبراً.
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:٨٢].
قوله: ((فأراد ربك أن يبلغا أشدهما))، أي: قوتهما في العقل وكمال الرأي، ((ويستخرجا كنزها))، ليتصرفا فيه، ((رحمة من ربك)) أي: تفضلاً به عليهما، ورحمة: مفعول له، أو مصدر مؤكد (لأراد)، فإن إرادة الخير رحمة.
((وَمَا فَعَلْتُهُ))، ما فعلت ما رأيت مني، ((عَنْ أَمْرِي))، أي: عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله تعالى، ((ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) من الأمور التي رأيتها، أي مآله وعاقبته.
قال أبو السعود: ((ذلك)) إشارة إلى العواقب المنظومة في سلك البيان، وما فيه من معنى البعد، للإيذان ببعد درجتها في الفخامة، و ((تسطع)) مخفف بحذف التاء.