[ذكر الآثار الواردة في المباهلة]
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة، فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره، وكانوا ستين راكباً منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم: العاقب أمير القوم واسمه عبد المسيح.
والسيد في مالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم.
وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم.
وفي القصة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله عز وجل، والفصل من القضاء بينهم وبينه، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى المباهلة، فقالوا: يا أبا القاسم! دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه ثم خلوا بـ العاقب الذي هو أميرهم، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم! قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا)، فلم يلاعنهم صلى الله عليه وسلم وأقرهم على خراج يؤدونه إليه.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لو قالا: لا، لأمطر عليهم الوادي ناراً، قال جابر: وفيهم نزلت: ((فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ)) [آل عمران:٦١] إلى آخر الآية.
قال جابر: (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب (أَبْنَاءَنَا) الحسن والحسين (وَنِسَاءَنَا) فاطمة) وهكذا رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم.
وروى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: (جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة) وهذا أيضاً رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال أبو جهل قبحه الله: إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته قال: فقال: لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً)، وهذا رواه البخاري وغيره.
يقول الزمخشري: فإن قلت: ما كان دعاؤه للمباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده، وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة.
معناه: أن الاثنين يقفان في المواجهة، فالرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه يدعون أن تنزل اللعنة على الكاذب في شأن عيسى، والآخرون أيضاً يدعون أن تنزل اللعنة على الكاذب في شأن عيسى عليه السلام، فلماذا أدخل غيره في ذلك مع أن المخاصمة كانت بين اثنين فقط؟ أدخلهم؛ لأن هذا أوكد في الدلالة على ثقته ويقينه من الحق الذي هو عليه، وأن الله سبحانه وتعالى فاطر السماوات والأرض ورب السماوات والأرض المطلع على هذا الحال معه، وسينصره، وسيخذل عدوه، بحيث إذا استجيبت الدعوة واستجيبت هذه المباهلة هلك الكافر وذووه فاستؤصلوا جميعاً ولم يبق منهم عين ولا أثر.
ثم يقول: وخص الأبناء والنساء؛ لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب.
ثم يقول: ويسمون الذادة عنهم بأرواحهم: حماة الحقائق، وقدمهم في الذكر على الأنفس: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:٦١] لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها.
وفيه دليل على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام.
وأصحاب الكساء من آل البيت، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ولا يقتصر وصف آل البيت عليهم.
ثم يقول: وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.