[تفسير قوله تعالى:(وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)]
قال الله تبارك وتعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}[البقرة:٨٤]، وقلنا: لا تسفكون دماءكم، ولا تريقونها بقتل بعضكم بعضاً، وقلنا في قوله:{إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}[البقرة:٨٣]، إشارة إلى أن المحسنين فيهم قلة، {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا}[البقرة:٨٣]، يعني: هناك قلة أحسنت، فلئلا يبخس الله سبحانه وتعالى هذه القلة حقها استثناهم، ولكن في نفس الوقت أشارت هذه الآية إلى أن الخير إذا صار قليلاً في الأمة والشر هو الغالب فإن ذلك لا ينجي الصالحين من عقاب الله إذا نزل؛ فإنه يعم الصالح والطالح، فوجود قلة من الصالحين لا يمنع العقاب الإلهي إذا فشى فيهم المنكر، وقل فيهم المعروف.
ثم قال تبارك وتعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}[البقرة:٨٤]، قوله تعالى:(وإذ أخذنا ميثاقكم) يعني: اذكر إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم، فيقدر هنا: وقلنا: لا تسفكون دماءكم، (لا) هنا نافية، ولو كانت ناهية لقال تبارك وتعالى:(لا تسفكوا دماءكم)، لكن قال تبارك وتعالى:(لا تسفكون) بالنون كما أتى بها من قبل في قوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}[البقرة:٨٣]، وكذلك: لا تسفكون، ولا تخرجون، عبر في هذه المواضع الثلاثة بالمضارع، وأتى بالفعل مرفوعاً بثبوت النون؛ لأن (لا) التي قبل هذه الأفعال ليست ناهية بل نافية، فما بعدها جملة خبرية لكن المقصود بها الإنشاء والنهي، وهذا يكون أبلغ من صريح النهي؛ كقوله تعالى:{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة:١٩٧]، فهذه (لا) نافية، لكن المقصود بها النهي، ومثله حديث:(لا ضرر ولا ضرار)(لا) نافية لكن المقصود بها النهي عن الضرر، كذلك هنا:{لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}، (لا) نافية، والمقصود بها النهي عن سفك الدماء.
قال تعالى:{وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}[البقرة:٨٤]، هذا مما أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق به على بني إسرائيل، ألا يخرجوا بعضهم بعضاً من هذه الديار.