[تفسير قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى الكبرى)]
يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:١٣ - ١٨].
قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)، أي: مرة أخرى من النزول، وتأكيد الخبر عن الرؤية التالية هذه بنفي الريبة والشك عنها أيضاً، وأنه لم يكن فيها التباس واشتباه، فهذا تأكيد للرؤيتين كلتيهما.
وقوله: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)، أي: موضع الانتهاء، فالمنتهى اسم مكان أو مصدر ميمي، وقد جاء في الصحيح: (أنها شجرة نبْق في السماء السابعة إليها ينتهي ما يُعرج به من أمر الله من الأرض، فيقبض منها، وما يهبط به من فوقها فيقبض منها)، ولعلها شبهت بالسدرة، كما قال القاضي، لأنهم يجتمعون في ظلها.
يعني: أن شجر النبْق يجتمع الناس في ظله، وهذه الشجرة أيضاً يجتمع عندها الملائكة، فشبهت بها، وسميت سدرة لذلك، والله تعالى أعلم.
لكن ورد في الحديث: (أن كل نبْقة فيها كقلة من قلال هجر)، فهي على هذا حقيقةٌ، وهو الأظهر.
ولا شك أنها حقيقة؛ لأن الحديث صحيح، وكان الأولى بـ القاسمي رحمه الله أن ينزه تفسيره من ذكر حكايات بعض العلماء الذين يزعمون المجاز في مثل هذه الأشياء؛ فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وصف سدرة المنتهى بأن كل نبَقة فيها كقلة من قلال هجر، فهذا يرفع أي احتمال للمجاز كما يزعمون.
(عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)، أي: التي تأوي إليها أرواح المقربين.
وقوله: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى)، أي: من جلال الله وعظمته، ومعناه: أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها، وتهبط عليها، وتحف من حولها.
(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)، هذا تنزيه لبصره صلى الله عليه وسلم، أي أنه ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه.
((وَمَا طَغَى))، يعني: ما تجاوز مرئيه المقصود له، بل أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً لا شبهة فيه.
وفيه وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته.
(لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) في هذا إشارة إلى أنه رأى الكبرى من آيات الله، وهو جبريل عليه السلام، أي: رأى الملك الذي عاينه وأخبره برسالته، وفيه غاية التفخيم لمقامه، وأنه من الآيات الكبرى، ويحتمل أن تكون ((الكبرى)) صفة لآيات في قوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ) أي: الآيات التي هي الكبرى، وعلى هذا يكون المرئي محذوفاً.
يعني: إذا قلنا إن (الكبرى) المقصود بها جبريل، فتكون هي المفعول به؛ لكن إذا قلنا: إن (الكبرى) صفة لـ (آيات)، ففي هذه الحالة يكون المفعول به محذوفاً، وحُذف لتفخيم الأمر وتعظيمه، وكأنه قال: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى أموراً عظاماً لا يحيط بها الوصف، والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول.