للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان)]

{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن:٥٨ - ٦١].

قوله: ((كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ)) يقول القاسمي: أي: في الحسن والبهجة، أو في حمرة الوجنة والوجه أدباً وحياء ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).

((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يعني: هل جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب وهو الجنة: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.

يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) أي: ما لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة, كما قال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦].

قوله: ((الحسنى)) هي الجنة، ((وَزِيَادَةٌ)) وهي رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة.

وبعض المفسرين ذهب إلى أن قوله تعالى: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يفيد العموم، يعني: ما جزاء الإحسان في الدنيا التي هي دار العمل إلا الإحسان في الدنيا والآخرة.

قال الصادق: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد, فيكون هنا تفسيران: التفسير الأول: هل جزاء من أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة, هذا هو الصواب، ويؤيده قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦].

والتفسير الثاني: ((هل جزاء الإحسان)) يعني: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل حينما كتبه الله سبحانه وتعالى من السعداء إلا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد حتى يدخل الجنة.

وقال محمد بن الحنفية: هي مسجلة للبر والفاجر, أي: مرسلة.

يعني: مطلقة غير مقيدة، حتى الكافر إذا أحسن في الدنيا يحسن الله إليه في الدنيا، لكن أعماله مقيدة بمشيئة الله تعالى، كما في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:١٨] وهذا هو سر القيد: ((لمن نريد)) إلى آخر الآية.

وقول محمد بن الحنفية في تفسيرها: هي مسجلة للبر والفاجر، أي: مرسلة على الفاجر في الدنيا، وعلى البر في الآخرة، وهذا المعنى في الحقيقة ليس بدعاً من القول، فإنه يؤيده نصوص تدل على أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى لا يضيع عليه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى.

يعني: أن الكافر الذي يعمل أعمالاً حسنة مما يرضي الله عز وجل كبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف، وحسن الجوار، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، والتنفيس عن المكروب، ونحو ذلك فهو يجازى عليه، لكن فقط في الدنيا؛ لأن الدنيا هي سجن المؤمن وجنة الكافر.

يعني: المؤمن إذا خرجت روحه كالسجين الذي يحكم عليه بالإطلاق والإخراج, فيدخل إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، ويطلق من القيود التي كان مقيداً بها في الدنيا، سواء الأحكام الشرعية من الحلال والحرام أو غير ذلك من الابتلاءات, أما الكافر فهو يجازى فقط في الدنيا التي هي جنته, وهي المكان الوحيد الذي يمكن أن ينتفع فيه بعمله الصالح في الدنيا، ولا يمكن أن يكون له حظ في الآخرة إذا مات على غير التوحيد؛ وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٥ - ١٦]، وقال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:٢٠]، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها) رواه مسلم، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا).

وهذا هو السر في أننا أحياناً نجد الكافر في رزق وصحة وأولاد ونعيم ورأس مال ومشاريع وكذا وكذا, وقد يفضل في كثير من الأحوال على المؤمن، بينما المؤمن مبتلى فقير وهكذا؛ لأن الله سبحانه يريد رفع درجات المؤمن في الآخرة، وذلك للحديث الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته) رواه مسلم.

إذاًً: القاعدة العامة أن انتفاع الكافر بالعمل الحسن الذي يعمله مقيد بمشيئة الله، كما قال الله سبحانه وتعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ))، فهذه تقيد ما سبق من الكلام.

أما في الآخرة فالنصوص كثيرة جداًَ، وهي دالة على أنه لا يمكن أن ينتفع الكافر بعمله في الآخرة إذا مات على الشرك والعياذ بالله.