للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تأييد الله لعيسى بروح القدس]

قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:٨٧] أي: قويناه، قوله: (بروح القدس) هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة، وروح القدس هو جبريل عليه السلام.

كان جبريل عليه الصلاة والسلام يسير مع المسيح عليه الصلاة والسلام حيث سار يعينه ويلهمه العلوم، فلم يستقيموا مع ذلك، يعني مع أننا أيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام بهذه الآيات وبجبريل عليه الصلاة والسلام لكنكم -أيها اليهود- لم تستقيموا ولم تؤمنوا به ولم تتبعوه عليه الصلاة والسلام.

وقد قرأ مجاهد وابن محيصن: (وآيدناه) بالمد، وهما لغتان.

((وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)) تشمل كل معجزة أوتيها المسيح عليه الصلاة والسلام، وقيل: المقصود الإنجيل.

ونلاحظ في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أفرد المسيح عليه الصلاة والسلام عن سائر رسله، فإنه يقول تبارك وتعالى: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة:٨٧] مع أن عيسى من الرسل الذين أتوا بعد موسى عليه الصلاة والسلام، فخص عيسى عليه الصلاة والسلام وأفرده عن سائر الرسل الذين جاءوا بعد موسى لتميزه عنهم، لكونه من أولي العزم من الرسل، كما أنه كان صاحب كتاب وهو الإنجيل، وقيل: لأنه ليس متبعاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام كغيره من الرسل الذين جاءوا بعد موسى، فإنهم ألزموا بالتوراة، أما المسيح عليه الصلاة والسلام فقد جاء بنسخ كثير من الأحكام التي كانت في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام.

ويلاحظ في القرآن الكريم نسبة المسيح عليه الصلاة والسلام إلى أمه، يقول تعالى: (عيسى بن مريم)، والمقصود بذلك الرد على اليهود الذين زعموا أن له عليه الصلاة والسلام أباً، فاليهود يرمون مريم عليها السلام بالفاحشة والعياذ بالله، قال الله: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:١٥٦]، فهم يزعمون أن المسيح -والعياذ بالله- ابن زنا، وأن له أباً والعياذ بالله! فالله سبحانه وتعالى لم ينسبه إلا إلى أمه؛ إشارة إلى أنه لا أب له، وهذا هين ويسير في قدرة الله سبحانه وتعالى، فإنه لما بشرت الملائكة مريم بالمسيح عليه الصلاة والسلام قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:٢٠ - ٢١]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] فهذا فيه رد على اليهود -لعنهم الله- حيث زعموا أن للمسيح عليه الصلاة والسلام أباً.

ومن سأل وقال: من هو أبو المسيح؟ فنقول له: من هو أبو آدم؟ فهذه من آيات الله سبحانه وتعالى لإظهار كمال قدرته، فإن الله سبحانه وتعالى نوع خلقه، وإن كان كل نوع من الخلق آية من آيات الله، فآدم عليه الصلاة والسلام خلق من غير أب وأم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩]، وحواء خلقت من ضلع آدم عليه الصلاة والسلام، فحواء خلقت من رجل دون امرأة بقدرة الله سبحانه وتعالى، والمسيح عليه الصلاة والسلام خلق من أم بدون أب، وسائر البشر خلقوا من أب وأم، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى الدائمة في البشر.

وفي الحقيقة كل صورة من صور الخلق هي في حد ذاتها معجزة، لكن الله سبحانه وتعالى نوّع الخلق، لأن الأمور العادية يعتادها الناس فلا يلتفتون إلى ما فيها من الآيات البينات، لكونهم اعتادوها، فمثلاً: خروج الكتكوت من البيضة، أليست معجزة؟! لو اجتمع كل من على ظهر الأرض من علماء وخبراء وفنيين بكل ما أوتوا من علم، وأرادوا أن يخلقوا ذبابة أو فيروس أو بكتيريا، لم يستطيعوا ذلك، لكن الله سبحانه هو الذي انفرد بالخلق.

فالمقصود من ذلك أن هذه كلها آيات لله سبحانه وتعالى، وأن المسيح مظهر من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى على الخلق، حيث إنه نسب إلى أمه ولا أب له عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

فإذا سأل المشركون الملحدون وقالوا: فمن أبوه؟ فالجواب كما يزعم النصارى -والعياذ بالله- أن الله سبحانه وتعالى هو أبوه، بل نقول لهم: من أبو آدم؟ بل من أم آدم؟ ولذلك أجاب الله سبحانه وتعالى على هذه الشبهة بقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩].

وعيسى بالعبرانية: (إيشور)، ومعناه: السيد، أو المبارك، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:٣١]، أما مريم باللغة العبرية فمعناها: الخادم، سميت أم عيسى عليها السلام بهذا الاسم لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس، وقيل: معناها: العابدة، أما معنى مريم في اللغة العربية فهي المرأة التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر، كالزير من الرجال، فهذان تعبيران معروفان في اللغة العربية، فالمرأة التي تتجرأ على الكلام مع الرجال بدون فجور تسمى مريم، والرجل الذي يحب الكلام مع النساء حتى لو لم يفجر يسمى زيراً، ويوجد خلاف ذلك، قال الأزهري: المريم المرأة التي لا تحب محادثة الرجال، وكأنه قيل لها ذلك تشبيهاً لها بـ مريم البتول؛ لانعزالها عن الناس وعدم اختلاطها بالرجال.