للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجه استغفار إبراهيم لأبيه وحكم الاقتداء به في ذلك]

ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه كان لأجل وعد تقدم منه له، ويكون المعنى: لا تتأسوا بإبراهيم حينما استغفر لأبيه كما في سورة مريم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:٤]، وقال عز وجل في الآية الأخرى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:٤]، ثم قال: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:٤] فالشاهد أن قول إبراهيم لأبيه: (لأستغفرن لك) بناء على وعد كان وعده أبوه، وهو أنه سيوحد وسيؤمن؛ فلذلك صدر الاستغفار من إبراهيم عليه السلام، لكن لما تبين له أنه عدو لله مصر على الشرك تبرأ منه، فلا ينبغي لكم أن تتخذوا من استغفار إبراهيم لأبيه المشرك أسوة وقدوة؛ لأن هذا ليس موضع اقتداء؛ لأن أباه كان وعده بالإيمان فمن ثم استغفر له، لا أنه كان يواليه ويدعو الله سبحانه وتعالى بالمغفرة لمن علم أنه مشرك.

إذاً: ذكر الله عز وجل أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه لأجل وعد تقدم منه له، لقوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:٤٧]، وقوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:٤]، وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك.

قوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) يعني: أنه مستقر وراض بالشرك ومصر عليه.

قوله: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي: تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له، وبين تعالى الحامل لإبراهيم على الاستغفار لأبيه لما وعده بالإيمان أنه كان فرط ترحمه وصبره، ولذلك ختم الآية بقوله: (إِِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)، فالسبب أنه كان حريصاً على أن يستغفر لأبيه لما وعده بالإيمان.

قوله: (إن إبراهيم لأواه) أي: كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب.

قوله: (حليم) أي صبور على ما يعترضه من الإيذاء؛ ولذلك حلم عن أبيه مع أن أباه توعده بقوله: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:٤٦]، واستغفر له بقوله: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:٤٧]، وذلك قبل التبين، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك.

وفي الآية تأكيد لوجوب الاجتناب للاستغفار بعد التبين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام تبرأ من أبيه بعد التبين، وذلك مع كمال رقة القلب والحلم عند إبراهيم، فلابد أن يكون غيره أكثر منه اجتناباً وتبرؤاً.

وقد ساق المفسرون هاهنا روايات عديدة في سبب نزول الآية، ولما رآها بعضهم متنافية حاول الجمع بينها بتعدد نزول الآيات، ولا تنافي بين هذه الروايات؛ لأنه -كما نبهنا مراراً- إذا قيل في الآية: نزلت في كذا فقد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع في هذه الحادثة وغيرها، أو يكون حكم الآية لا يشمل إلا هذه الحادثة وحدها لا أنها تعدت سبب نزولها.