للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس)]

قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:١٢٥] (وإذ جعلنا البيت) يعني الكعبة.

(مثابة للناس) يقول السيوطي: مرجعاً يثوبون إليه من كل جانب، ومأمناً لهم من الظلم والإغارات الواقعة في غيره، كان الرجل يلقى قاتل أبيه فلا يهيجه.

(واتخذوا من مقام إبراهيم) اتخذوا -أيها الناس- من مقام إبراهيم عليه السلام وهو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت (مصلى) أي: مكاناً تصلوا خلفه ركعتي الطواف، وفي قراءة: (واتَخَذوا من مقام إبراهيم مصلى) على الخبر.

قوله تبارك وتعالى: (وإذ جعلنا) يعني: صيرنا، (البيت) يعني الذي بناه إبراهيم بأم القرى، وهو اسم للكعبة غالباً، كالنجم للثريا، والألف واللام تدخل للمعهود، والمخاطبون هنا في هذه الآية يعلمون أنه سبحانه وتعالى لم يرد هنا جنس البيت، وإنما يقصد بيتاً معهوداً في الأذهان، كما قال: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:١٦]، مع أنه لم يصرح باسم الرسول، لكن أل هنا للعهد الذهني، والرسول هو موسى عليه السلام، فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس انصرف إلى المعهود.

(مثابة للناس) أي: مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه ويحنون ويعودون ويئوبون إليه، و (مثابة) على وزن مفعلة من الثوَب، وهو الرجوع بالكلية، وليس مجرد رجوع فقط، إنما رجوع مع انجذاب القلب كما يجذب المغناطيس الحديد، فهكذا حال القلوب مع هذا البيت المشرف، وسر هذا التفضيل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له، لم يقل: وإذ جعلنا البيت مرجعاً للناس يرجعون إليه، لكن استعمل كلمة مثابة، لأنه رجوع مع انجذاب شديد، فالقلوب ترتمي وتنجذب إليه انجذاباً قوياً؛ فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل: محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال الهيولى بضم الياء مخففة أو مشددة، مادة الشيء التي يصنع منها، فهيولى الكرسي الخشب، أو هيولى المسمار الحديد، أو هيولى الملابس القطنية القطن، وهكذا.

والقائل هنا يمدح أحد المخلوقين ويذكر محاسنه، وبلا شك فإن الكعبة المشرفة أولى بهذا الثناء وهذا المديح؛ فهم يثوبون إلى البيت على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً، وكلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقاً، بل بالعكس تجد الذي يزور البيت الحرام ويشرفه الله سبحانه وتعالى بذلك لا يكون كمن لم يزره في شدة الشوق إليه، فإن من ذاق وعرف ليس كمن لم يذق ولم يعرف، فتجد من زاره لا يقضي منه وطراً، ولا يشبع أبداً من مجاورة هذا البيت والحج إليه، يقول: فكلما ازدادوا له زيارة ازدادت قلوبهم به تعلقاً، وازدادوا له تعطشاً واشتياقاً.

جعل البيت مثاباً لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر ويقول آخر واصفاً الكعبة المشرفة: لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً فالإنسان إذا نظر من بعيد عنها ينجذب من جديد إلى النظر إليها كي يملأ عينه منها، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام.

ويقول آخر: سل الله كم لها من قتيل وسليب وجريح وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ما الذي يدفع الإنسان إلى أن يبذل الآلاف؟ تجد شركات الطيران والسفارات يصعبون على الناس الحصول على تأشيرات الحج والعمرة، ومع ذلك هل يتوقف الناس؟! لا، بل يثوبون إلى البيت، ويضحي المسلم بكل شيء، بالمال الذي يدخره، وبفراق أهله وأولاده، بترك عمله، بمفارقة وطنه، بكل هذه التضحيات! هل سيجد هناك منصباً دنيوياً فيعطيه أحد مالاً؟ هل سيجد جنات وبساتين ومناظر جميلة وجبال تكسوها الثلوج كما يجد الذين يحجون إلى سويسرا وأوروبا؟! لا يجد إلا الحر الشديد، وقد يجد المعاملة الغليظة من بعض أهل تلك البلاد، فلا شيء من أمور الدنيا يجذبه، وليس إلا هذا المغناطيس الذي وضعه الله سبحانه وتعالى في هذا البيت المشرف، زاده الله تشريفاً وتكريماً.

فقد رضي المحب بمفارقة فلذات الأكباد والأهل والأحباب والأوطان، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمصاعب والمشاق، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه.

فهذا معنى مثابة للناس، يثوبون إليه لايشبعون منه، إذا ذهبوا إليه يعودون منه من كل حدب وصوب، ومن كل جهة منجذبين إليه، هذا معنى قوله: (مثابة للناس).