[الأحاديث الواردة عن النبي في ذم الدنيا]
وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذم الدنيا، ودعا إلى الاعتبار بسرعة زوالها، فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أُحبّ المساكين؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم أحيني مسكيناً! وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، والمساكين هم: أهل السكينة والتواضع، وذلك لأن الفقير أرق قلباً، وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى، والمسكنة مأخوذة من السكون، فهو إذا لم يستطع كسباً، أو لم يجد مالاً فإنه يسكن ويقعد.
فقوله: (اللهم! أحيني مسكيناً) ليس فيه دعاء بالفقر؛ لأن الفقر إذا وقع فإنه بلاء، وقد قرنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكفر في أذكار الصباح والمساء فقال: (اللهم! إني أعوذ بك من الكفر والفقر)، إذاً: فليس هذا الدعاء دعاءً بالفقر وهو بلاء، وإنما هو دعاء بأخلاق المساكين من الخشوع والسكينة والتواضع، (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين).
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً فانظر ما يخرج من ابن آدم، وإن قزحه وملحه قد علم إلى ما يصير)، فهذا مثل من أمثلة الدنيا، فالطعام الذي يخرج من ابن آدم بعدما يمتص ويهضم يصير فضلات لها شكل قبيح، ورائحة نتنة، فانظر إلى عاقبتها، ولا تغتر بمظهرها، وإن قزحها وملحها ووضع عليها التوابل والمشهيات.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).
فمن كانت الآخرة همه، وجعل الهموم هماً واحداً فإن هذا يترتب عليه هذا الكسب العظيم، فيجمع الله شمله، وتلتئم أموره، وجعل غناه في قلبه، وهذا هو أعلى درجات الغنى: غنى القلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس).
ويقول الشاعر: غنيت بلا مال عن الناس كلهم إن الغنى العالي عن الشيء لا به فكل من استغنى بمال فهو فقير إلى هذا المال، وأما أعلى درجات الغنى فهي أن تستغني عن الشيء ولا يستعبدك؛ ولذلك جعل عاقبة من كانت الآخرة همه أن جعل غناه في قلبه؛ لأنه إذا اغتنى قلبه طمع ولم يتطلع إلى الدنيا، ومع ذلك من إيقاع القناعة في قلبه لا يحرم عليه الدنيا، بل تأتيه الدنيا وهي راغمة ذليلة، فهي التي تأتيه وليس هو الذي يجري وراءها، (من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)، فهذه هي السعادة التي يبحث عنها الناس، ويضلون الطريق إليها حينما يعرضون عن الذكر والقرآن، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:١٢٤].
(ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)، ولم يأته من الدنيا التي يوغل في الجري واللهف وراءها إلا ما كتب له.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله! لو اتخذت فراشاً ألين من هذا، فقال: مالي وللدنيا! ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟! والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلب أحدكم إذا أزاغه إلا هي، وايم والله! لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء).
وعن محمود بن لبيد مرفوعاً: (اثنان يكرههما ابن آدم، يكره الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أجملوا في طلب الدنيا، فإن كلاً ميسر لما خلق له).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع، وأشار بالسبابة).
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخلت عليّ امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية، فرجعت إلى منزلها فبعثت إليَّ بفراش حشوه صوف، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقلت: فلانة الأنصارية دخلت عليَّ فرأت فراشك، فبعثت إليَّ بهذا، فقال: رديه، فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: يا عائشة! رديه والله! لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة).
وقد عرضت عليه صلى الله عليه وسلم مفاتيح كنوز الدنيا فلم يأخذها، وقال: (بل أجوع يوماً وأشبع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك)، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً).
وقال أبو هريرة: (والذي نفس أبي هريرة بيده! ما شبع نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام شبعاً من خبز حنطة حتى فارق الدنيا).
وعن أنس رضي الله عنه قال: (ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً، ولا شاة سميطاً حتى لحق بربه).
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليالٍ تباعاً حتى قبض).
وعن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم لا يجد دقلاً يملأ بطنه).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (والذي بعث محمداً بالحق! ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي، ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبضه، قال عروة: فكيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار ونعجن الباقي).
وفي مسند الحارث عن أبي أسامة عن أنس: (أن فاطمة رضي الله عنها جاءت بكسرة خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟! قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة، فقال: أما إنه أول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاثة أيام).
وعن جابر رضي الله عنه قال: (لما حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجراً من الجوع)، قال ابن القيم: وقد أسرف أبو حاتم ابن حبان في تقاسيمه في رد هذا الحديث وبالغ في إنكاره، وقال: إن المصطفى أكرم على ربه من ذلك، أي: أنه رفض الحديث من جهة المعنى، وقال: إن فرد عليه ابن القيم قائلاً: وهذا من وهمه، وليس في هذا ما ينقص مرتبته عند ربه، فذلك رفعة له، وزيادة في كرامته صلى الله عليه وسلم، وعبرة لمن بعده من الخلفاء والملوك وغيرهم، وكأن أبا حاتم لم يتأمل سائر الأحاديث في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم، وهل ذلك إلا من أعظم شواهد صدقه، فإنه لو كان كما يقول أعداؤه وأعداء ربه إنه طالب ملك ودنيا لكان عيشه عيش الملوك، وسيرته سيرتهم، ولقد توفاه الله وإن درعه لمرهونة عند يهودي على طعام أخذه لأهله، وقد فتح الله عليه بلاد العرب، وجبيت إليه الأموال، ومات ولم يترك درهماً واحداً، ولا ديناراً ولا شاة، ولا بعيراً ولا عبداً ولا أمة، صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قلت: يا خالة! -هذا عروة - فعلى أي شيء كنتم تعيشون؟ قالت: على الأسودين، التمر والماء).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحد)، فقد كان المؤمن الوحيد من هذه الأمة صلى الله عليه وسلم فقط حين بعث، فكان هو فرداً واحداً، قال: (لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال).
وعن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا حجراً حجراً) يعني: جاء الصحابة يشكون إلى الرسول عليه السلام الجوع، فأتى كل واحد ووقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام ورفع ثيابه فإذا به قد شد عن بطنه بحجر، وفائدة شد الحجر على البطن، وكذلك شد الأحزمة على البطون أن ذلك يقاوم الجوع؛ لأن الضغط على المعدة بالحجر يقلل من حجمها، ويقلل من الشعور بالجوع، فكان الصحابة من شدة الجوع يربطون على بطونهم حجراً، وهذه إحدى وسائل إيقاف الوزن الآن، فيضحكون على الناس ويجعلون لهم كتلة تضغط على مكان المعدة بحيث يقل حجم المعدة فلا يشعر الإنسان بالجوع، أو تقلل الإحساس بالجوع، فالمهم أن الصحابة شكوا بلسان الحال لا بلسان المقال، فيقول أبو طلحة: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا حجراً حجراً، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه حجرين).
فهذه جملة من الأحاديث التي فيها