[حقيقة الغلو عند النصارى وغيرهم وآثاره]
قوله: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)) أي: بالإشراك في رفع شأن عيسى عليه السلام، وادعاء ألوهيته؛ فإنه تجاوز فوق المنزلة التي أوتيها وهي العبودية والرسالة، فهنا نهي عن الغلو في الدين، والغلو في العقيدة، كما فعل أهل الكتاب أو النصارى لعنهم الله.
فالغلو: هو مجاوزة الحد بالإسراف، فإن وصف عيسى بالألوهية رفع له فوق منزلته التي هي العبودية لله سبحانه وتعالى والرسالة.
فيستفاد من الآية: حرمة الغلو في الدين، وهذه الآية فيها دليل من أدلة تحريم التطرف الذي هو الأخذ بطرفي الأمور؛ إما أقصى اليمين، وإما أقصى اليسار، بالإفراط أو التفريط، وسبق أن ذكرنا أن التطرف يستلزم وجود وسط وطرفين، والمذموم هو طرفا الأمور كما قيل: كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
أي: كلاهما مذموم.
والعدل الذي يحبه الله هو الوسط، وهو هذا الدين وهذه الأمة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:١٤٣]، فهي الأمة الوسطية، فالوسطية نعرفها بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ونعرفها بالقرآن والسنة، فما يوافق الإسلام ويوافق الوحي فهو الوسط، وأي نوع من الانحراف عن هذه الوسطية يميناً أو يساراً فهذا هو التطرف، فعلى هذا الأساس نقول: كل كافر سواء كان يهودياً أو نصرانياً فهو متطرف، وأي واحد يعتقد بعقيدة غير عقيدة الإسلام فهو متطرف، كما نرى أن تطرف اليهود بالجفاء وبسب الأنبياء، وبوصف الله سبحانه وتعالى بما لا يليق به، فهذا هو أقبح التطرف، أو تطرف النصارى بما زعموه من أن الله ثالث ثلاثة، وأن الله هو المسيح بن مريم إلخ.
إذاً: فكل من لا يدين بدين الإسلام فهو متطرف، ثم إن في داخل دائرة الإسلام نفسه هناك فرق وهناك تفرق بين المسلمين، فكل من ليس من أهل السنة والجماعة فهو متطرف أيضاً، فالمتطرف داخل دائرة الإسلام هو كل من حاد عن منهج أهل السنة والجماعة؛ كالخوارج، والمعتزلة، والقدرية وكل هذه الفرق الضالة.
فالقوم الآن أتوا إلى جانب التفريط الذي عليه المجتمع من الانحراف عن الإسلام وتضييع حدود الله وجعلوه هو الوسطية وهو خير الأمور عندهم، ثم لما جعلوا ما هم عليه وسطاً صار الإسلام واقعاً في الطرف؛ فلذلك هم يطلقون على الإسلام نفسه وصف التطرف، وأصبح العالم كله الآن يصف الإسلام بالتطرف والتشدد إلى آخر هذه القائمة، وكانوا من قبل يناورون ويموهون على الناس، أما الآن صار كلاماً صريحاً حتى من الملاحدة في بلادنا هنا.
لقد اتفق الجميع الآن على أن كلمة التطرف أو الإرهاب المقصود بها الإسلام بلا أدنى مواربة أو تمويه، فهذا من ضلالهم المبين، وهم المتطرفون حقيقة؛ لأن ما هم عليه انحراف، وكل من ينحرف عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم هو المتطرف، فالذي يحلق لحيته ويعصي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم هو المتطرف، وليس الذي يعفيها طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك الذي يضيع الصلاة هو المتطرف، وليس الذي يصلي، والذي يصافح النساء الأجنبيات هو المتطرف؛ لأنه انحرف وتطرف عن الوسطية التي هي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرأة المتبرجة هي المتطرفة؛ لأنها انحرفت عن الوسطية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون عندنا اعتقاد راسخ بأن هذا هو الوزن الصحيح للأمور، وأن ما جاء به الإسلام هو الوسطية، وأن أي انحراف عنه فهذا هو الذي يستحق وصفه بالتطرف.
والآية هنا تحرم أقبح صور التطرف والتي وقع فيها النصارى لعنهم الله، وفي الصحيح عن عمر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
قوله: (لا تطروني) إما أن يكون الإطراء هو المدح، وإما أن يكون الإطراء هو المبالغة في المدح.
فإذا قلنا: إن الإطراء بمعنى المدح فهو يعني: لا تمدحوني، فإني مستغن عن مدحكم، فقد مدحني الله سبحانه وتعالى بما لا مزيد عليه، وذلك بقوله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤]، وغير ذلك من الممادح العظيمة التي شرفه الله بها، فهل يحتاج بعد ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن ننشئ له المدائح والقصائد والمحامد بعد أن مدحه الله بهذه المحامد، فإما أنه نهي عن المدح، أو أنه نهي عن الغلو في المديح الذي يؤدي إلى ما وقع فيه النصارى قبحهم الله، وقد ضل بعض الشعراء في هذا الباب، فنظم بيتاً يقول فيه: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم فهذا الشاعر فهم الحديث فهماً خاطئاً وقال: إن الحديث ينهى فقط عن أن نقول: محمد ابن الله، كما قالت النصارى: المسيح ابن الله.
يعني: هذا الشاعر خصص النهي هنا بزعم أنه ابن الله، لكن قولوا بعد ذلك ما شئتم فيه.
وهذا قول البوصيري في البردة المعروفة، فهو يقول: دع ما ادعته النصارى في نبيهم.
يعني: أهم شيء ألا تقول: إن محمداً ابن الله كما قالت النصارى: المسيح ابن الله.
يقول: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم فهو هنا فتح الباب على مصراعيه، وهو كان أول من خاض بالباطل في هذا الضلال، فكان بعد ذلك يقول مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم بناء على هذه القاعدة أو هذا الفهم الخاطئ للحديث.
الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم هنا ينهى المسلمين عن المبالغة في مدحه؛ كي لا يصبح بعد ذلك ذريعة إلى الغلو في الدين، وتحريفه بالتالي كما فعل النصارى مع المسيح عليه السلام.
قوله: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) يعني: أن العبودية في حق الأنبياء من أعظم ما يمدح به الأنبياء، ومن تواضع لله رفعه، فالمبالغة في العبودية والتذلل يكون مقابله أن الله سبحانه وتعالى يرفعه في أعلى المقامات؛ ولذلك مدح الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف المواطن بصفة العبودية؛ لأن هذا هو أعظم ما يمدح به.
وهذا الشاعر يقول في محبوبته: لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي أي: فلا تدعني إلا يا عبد فلانة، ولذلك قال الرجل الصالح رداً عليه: لا تدعني إلا بيا عبده فإنه أشرف أسمائي فأشرف الأوصاف أن تكون عبداً لله؛ ولذلك مدح الله نبيه بالعبودية في أشرف المقامات، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:٢٣] في مقام التحدي، وقال أيضاً: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:١]، وأيضاً قال تبارك وتعالى في سورة الجن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:١٩] في مقام الدعوة، وغير ذلك من مقامات التشريف.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يشرفه الله بالعبودية، وهو يتبرأ ممن يغالي في مدحه، كأن يقول: إنه أول خلق الله، أو نور عرش الله، إلى غير ذلكم مما يزعمه الصوفية، ويزعمون بذلك أنهم يمدحون الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الأشياء.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رجلاً قال: يا محمد! يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان فإنما أنا عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل).
قوله تعالى: ((وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)) يعني: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، بل نزهوه عن جميع ذلك.
((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) تأمل أن الله سبحانه وتعالى يصف المسيح بأنه ابن مريم، وليس ابن الله، فهو من البداية يبين لهم غلوهم، ولذلك يكثر في القرآن وصف المسيح باسمه كاملاً.
((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) يعني: إشارة إلى أنه ليس ابن الله، ولكنه ابن مريم عليها السلام، فهذه صفة له تفيد بطلان ما وصفوه به من كونه ابناً لله تعالى.
قوله: ((رسول الله)) هذا هو خبر المبتدأ، يعني: المسيح رسول الله، فهو مقصور على مقام الرسالة لا يتخطاها.
و (إنما) تفيد الحصر، فهو محصور في هذه الصفة لا يتجاوزها إلى ما يزعمون من الألوهية.
((وكلمته)) أي: عيسى عليه السلام المسيح كلمة الله؛ لأنه مكون بكلمته وأمره الذي هو (كن) من غير واسطة أب ولا نطفة، ولا شك أن كل المخلوقات إنما تخلق بكلمة (كن) سواء بواسطة أو بغير واسطة، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] لكن خص المسيح عليه السلام هنا لما كان في خلقه من المعجزة ومن الآيات البينات على قدرة الله سبحانه وتعالى.
((وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ)) أي: أوصلها إليها بنفخ جبريل عليه السلام.
((وَرُوحٌ مِنْهُ)) يعني: روح خلقها الله سبحانه وتعالى.
و (من) هنا لابتداء الغاية حيث تقول: أكلت السمكة من رأسها إلى ذيلها، وهي كقوله تبارك وتعالى: ((وروح منه)) أي: بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة، وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم؛ لأننا جميعاً أيضاً خلقنا من روح الله، بمعنى: أن أرواحنا مخلوقة لله، لا أنها جزء من الله؛ ولذلك يرد على ضلال النصارى الذين يتفلسفون ويستدلون بآيات القرآن لتأييد باطلهم، يرد عليهم بقوله تبارك وتعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:٧] ثم قال: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:٩] يعني: من روح الله، فالإضافة هنا معناها: من الروح التي خلقها الله، وليس أنها جزء من الله والعياذ بالله.
قوله: ((وروح منه)) هنا لابتداء الغاية وليس للتبعيض -والعياذ بالله- الذي هو قول النصارى، حيث يزعمون أنها جزء من الله والعياذ بالله، لكن المقصود بقوله: ((وروح منه)) يعني: روح خلقها الله سبحانه وتع