من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله وضع عن أمته الإصر وأحل لهم كثيراً مما حرم على من قبلهم
من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله تعالى وضع عن أمته الإصر الذي كان على الأمم قبلهم، وأحل لهم كثيراً مما حرم على من قبلهم، ولم يجعل عليهم في الدين من حرج، ورفع عنهم المؤاخذة بالخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وحديث النفس، ومن هم منهم بسيئة لم تكتب عليه سيئة بل تكتب له حسنة، يعني: من هم بالسيئة فلم يعملها فهذا الترك يثاب عليه حسنة، ومن هم بحسنة كتبت حسنة بمجرد الهم، فإن عملها كتبت عشراً، ثم يضاعف الله بعد ذلك لمن يشاء.
ووضع عنها قتل النفس في التوبة؛ لأنه كما نعلم من القرآن الكريم كانت توبة بني إسرائيل أن يقتل بعضهم بعضاً {اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}[البقرة:٥٤].
كذلك رفع عنا قرض موضع النجاسة، فقد كان من الأمم السابقة إذا أصاب ثوب أحدهم نجاسة فلا يطهر، وإنما يقرض -يقطع- المكان أو الموضع الذي أصابته النجاسة! ومن التيسير على هذه الأمة أخذ ربع عشر المال في الزكاة، وما دعوا به استجيب لهم، وشرع لهم التخيير بين القصاص والدية، ونكاح الأربع، ورخص لهم في نكاح غير ملتهم من أهل الكتابين، وفي مخالطة الحائض سوى الوطء، بخلاف اليهود فقد كانت المرأة عندهم تعزل تماماً في حال الحيض، وفي إتيان المرأة على أي شق كان، وحرم عليهم كشف العورة، وشرب المسكر، قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:٧٨]، وكلمة (من حرج) نكرة في سياق النفي، فهي تعم، ولو قال:(حرجاً) فإنها تعم، لكن قوله:(اخرج) أقوى؛ لأنها نفت أي درجة من درجات الحرج، وقال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:١٨٥]، وقال عز وجل معلماً إيانا أن ندعوه ثم استجاب لنا:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}[البقرة:٢٨٦]، وقال تعالى في ظل وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم وبركاته على العالمين وعلى هذه الأمة:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف:١٥٧] يعني: كانت على الأمم من قبلنا، قيل: من هذه الآصار والأغلال أن الشخص لو أكره على الكفر فكفر أنه يكفر بذلك، وليس له رخصة في التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره على قولها، بل إما أن يكفر إذا قالها، وإما أن يصبر حتى يقتل، واستدلوا على ذلك بقول فتية الكهف:{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف:٢٠]، فنفوا الفلاح الأبدي الذي ترتب على خيار من خيارين ((إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ))، فوسع عذر الإكراه لأمة محمد عليه السلام، فالخيار ليس محصوراً في القتل أو الرجوع إلى ملة الكفر، فممكن أن يبقى حياً مع التلفظ بلسانه فقط وقلبه مطمئن بالإيمان، قال تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}[النحل:١٠٦] يعني: هذا هو الذي يكفر حقيقة، ولكن ما دام القلب مطمئناً بالإيمان، ولا سلطان لأحد عليه، فيمكن أن توجد رخصة، فهذا أيضاً من وضع الآصار، واستدلوا في هذا المقام بحديث طارق بن شهاب الذي رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد:(دخل رجل النار في ذبابة، ودخل رجل الجنة في ذبابة، مرَ رجلان على أناس يعبدون الوثن، فقالوا للرجل الأول: قرب ولو ذباباًَ -يعني: لابد أن تقرب شيئاً لهذا الوثن- فأبى؛ فقتلوه فدخل الجنة -بسبب ترك التقرب بذبابة-، أما الآخر فقيل له: قرب وإلا نقتلك، فقرب ذباباً فخلوا سبيله، فكفر بذلك فدخل النار) أي: بسبب الذبابة، والحديث ضعيف، وإن صح فإنه يصلح شاهداً لهذا المعنى، وهو: أن العذر بالإكراه من خصائص أمتنا المحمدية.
وقال تبارك وتعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة:١٨٦]، وهذه الآية منقبة عظيمة جداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نلاحظ كثيراً من الفتاوى في القرآن الكريم كقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}[الأنفال:١]، وقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}[البقرة:٢٢٢]، وقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}[البقرة:٢١٩]، وقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[البقرة:١٨٩]، أما هنا فلم يقل (يسألونك عني)، لكنه سبحانه وتعالى هو الذي يضفي هذا الترغيب في الرحمة فيقول مبادراً ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي))، يعني: كأنه لم ينتظر حتى يسأل أحد، ولكن بادر سبحانه وتعالى بأن تقرب إلى عباده بقوله:((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي))، ولم يقل: فقل: إني قريب، وإنما قال:{فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:١٨٦]، فسبحان الله ما أعظم رحمة الله بعبادة المؤمنين!! وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:(لما أنزلت هذه الآية: {إنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}[البقرة:٢٨٤] دخل في قلوبهم منه شيء لم يدخل من قبل، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية شقت عليهم، فلما قالوا ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا، فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فقالوا: سمعنا وأطعنا، فأنزل الله تبارك وتعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ}[البقرة:٢٨٥]، إلى آخر السورة الكريمة).
وفي بعض الأحاديث أن الله سبحانه وتعالى قال:(قد فعلت) يعني: قد استجبت هذا الدعاء وقد غفرت لكم.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:(سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون؟ فأخبرني أنه عذاب كان يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، كان له مثل أجر شهيد)، وهذا الحديث يعتبر سبق علمي في غاية الأهمية وفي غاية الخطورة، خاصة عند الأخصائيين بالصحة العامة الذين يهتمون جداً بالوقاية، فلا شك أن هذا الحديث يدل على أعظم درجات الوقاية من مثل هذه الأوبئة؛ لأنه لو سمح للناس الذين يقع الطاعون فيهم بالخروج لنقل هذا الوباء، أو سمح لمن لم يوجد فيه بالدخول فهذا فيه تعرض لهذا البلاء، وكله من قدر الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما حصل الطاعون في الهند قبل حوالى خمس سنوات، فالذي حصل أن بعض مرافق الحكومة سمحوا لبعضهم بالفرار إلى أماكن أخرى؛ لأن الإجراءات كانت كلها سليمة؛ فانتشر الطاعون في عامة أرجاء الهند، بسبب أنهم تركوا الناس يفرون خارج المدينة، فانتشر الطاعون جداً، وإلى أيامنا هذه بعض دول الخليج تمنع الطائرات القادمة من الهند؛ خشية أن يأتي هؤلاء الناس معهم، وهذا كله بإذن الله سبحانه وتعالى، ولما حصل زلزال في جبال محيطة بهذه المنطقة في إيران، وكانت هناك أسر تعيش في جحور الجبال؛ فلما فتحت هذه الصدوع انتشر الطاعون عن طريق تأثير الزلزال، وامتد هذا المرض إلى هذه القرى، فكان هذا فعلاً من أقوى الإجراءات الوقائية، أي بلد يدخل فيه الطاعون فالمشروع لمن فيه أن يصبر ويحتسب ولا يخرج، والذي خارجها لا يدخلها، كما قال عمر: أفر من قضاء الله إلى قضاء الله.