[كلام ابن القيم على آية: (والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون)]
يقول القاسمي: ثم رأيت لـ ابن القيم في طريق الهجرتين نصاً لهذين الوجهين في بحث الصديقية، حيث قال رحمه الله في: مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم: المرتبة الرابعة: ورثة الرسل وخلفائهم من أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة.
ولهذا قرنهم الله سبحانه وتعالى في كتابه بالأنبياء فقال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩]، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة، وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته.
بمعنى: أن العلماء الربانيين العاملين الذين يتصفون بمرتبة الصديقية هم الذين يخلفون الرسول في إقامة الحجة وتبليغ الدين إلى أمتهم.
فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه، وهم الذين لا يزالون على الحق، ولا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
وقوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:١٩].
يقول ابن القيم: الوقف على قوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ))، ثم يبتدأ: ((وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ))، فيكون الكلام جملتين، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل؛ لأنهم إذا آمنوا بالله ورسله الإيمان التام الكامل فإن هذا يستلزم أنهم عالمون عاملون داعون إلى الله سبحانه وتعالى، والإيمان التام يستلزم العلم والإيمان والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه.
وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء؛ ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين.
يعني: أنه هنا في سورة الحديد وفي سورة النساء قدم الصديقين على الشهداء.
وهكذا جاء ذكرهم مقدماً على الشهداء في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صعد جبل أحد، وكان معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فتزلزل الجبل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيد)، ولهذا كان نعت الصديقية وصفاً لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتاً له رضي الله تعالى عنه، لكن الواقع أن أفضل وصف وأفضل مرتبة بعد مرتبة النبوة مباشرة هي مرتبة الصديقية، وأفضل الصديقين على الإطلاق هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
وقيل: إن الكلام جملة واحدة، أي: أخبر عن المؤمنين أنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم، وعلى هذا: فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة، كما في قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:١٤٣]، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا وشهداء على الناس يوم القيامة، فهو إخبار عن الذين آمنوا بالله ورسله بأنهم في الدنيا هم الصديقون، وفي الآخرة هم الشهداء عند ربهم، يعني: أنهم في الآخرة سيكونون شهداء على أن الرسل بلغوا أممهم، فيكون الشهداء وصفاً لجملة المؤمنين الصديقين.
وقيل: (والشهداء): هم الذين قتلوا في سبيل الله، وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين، ويكون قوله تعالى: ((وَالشُّهَدَاءُ))، مبتدأً خبره ما بعده؛ لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيداً في سبيل الله، ويرجحه أيضاً: أنه لو كان (الشهداء) داخلاً في جملة الخبر لكان قوله: ((لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ))، داخلاً أيضاً في جملة الخبر عنهم، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء: أحدها: أنهم -أي: المؤمنون- هم الصديقون.
الثاني: أنهم هم الشهداء.
والثالث: أن لهم أجرهم ونورهم، وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول، ثم ذكر الخبر الثالث مدرجاً بدون عطف.
وهذا كما تقول: زيد كريم وعالم له مال، كذلك قال هنا: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ)) كقولك: زيد كريم وعالم، ثم قال: ((عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)).
فهنا عطف الثانية على الأولى، وأتى بالثالثة بدون عطف.
يقول ابن القيم: والأحسن في هذا تناسب الأخبار؛ بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعاً، فتأمله.
فيستبعد ابن القيم رحمه الله تعالى احتمال العطف هنا؛ لأنه لو كان بالعطف سيبقى مثل قولنا: زيد كريم وعالم له مال، والأنسب أن تقول: زيد كريم عالم له مال، أو تقول: زيد كريم وعالم وله مال.
أما ذكر الخبر الثالث مجرداً عن العطف فإنه يكون قولاً مرجوحاً بالنسبة لما ذكرناه.
يقول ابن القيم: ويرجحه أيضاً: أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء وهم الصديقون والشهداء والصالحون.
وهذا الكلام من هذا الإمام من الدقائق الرائعة الرائقة النفيسة.
يعني: أنه يذكر هنا مرجحات كون كل جملة مستقلة، وأنه لا عطف.
وإذا قلنا: إن قوله تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ)) [الحديد: ١٩]، يصبح هنا الكلام انتهى عن الصنف الأول من أصناف السعداء، وهم الأنبياء، ثم تكلم على الصنف الثاني من أصناف السعداء، وهم الصديقون؛ لأن الصنف الأول هم الأنبياء، وقد ذكروا في نفس السورة في موضع آخر.
فذكر من أصناف السعداء الصديقين، ثم عطف عليهم نوعاً آخر مغايراً؛ لأن الواو تقتضي المغايرة.
ويرجح احتمال عدم العطف: أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء، وهم الصديقون والشهداء والصالحون، وهم المذكورون في الآية، وهم الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً.
ثم ذكر الرسل في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد:٢٥]، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء؛ ففي سورة النساء قال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:٦٩].