[فوائد مستنبطة من قصة الثلاثة الذين خلفوا]
قال بعض المفسرين: في الآيات دليل على جواز الشدة على من فعل الخطيئة وعلى قطع ما يلهي عن الطاعة.
يعني: هذه مسألة نسبية كما قال الحافظ ابن حجر.
ويؤخذ من هذا الحديث: أن القوي في دينه يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف، فهؤلاء الثلاثة لقوة إيمانهم وشدة دينهم قوبلوا بهذه الشدة أيضاً: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
قال القاشاني في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)) أي: في جميع الرذائل بالاجتناب عنها، خاصة رذيلة الكذب، وذلك معنى قوله: ((وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) اتقوا الله بتجنب الكذب، (وكونوا مع الصادقين) فإن الكذب أسوأ الرذائل وأقبحها لكونه ينافي المروءة، وقد قيل: لا مروءة لكذوب، إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان: إخبار الغير عما لا يعلم، يعني: هذه حكمة الله سبحانه وتعالى حيث جعل الإنسان حيواناً ناطقاً بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تنطق، كي يستطيع الإنسان أن يخبر غيره عما لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق للواقع لم تحصل فائدة النطق، وحصل منه اعتقاد غير مطابق، وذلك من خواص الشيطنة، فالكاذب شيطان، وكما أن الكذب أقبح الرذائل فالصدق أحسن الفضائل، وأصل كل حسنة، ومادة كل خصلة محمودة، وملاك كل خير وسعادة، به يحصل كل كمال، فالصدق باب إلى كل أنواع الخير، وهو أساس الاستقامة.
وكل من أراد أن يصلح حاله مع الله سبحانه وتعالى ينبغي أن تترقى همته ويقتدي بـ كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه، حينما ذكر أن الله سبحانه وتعالى وفقه إلى الصدق، وأنه حمد الله عز وجل على أن وفقه للصدق، يقول: (يا رسول الله! إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت) فالمقصود أن المؤمن عالي الهمة إذا سمع مثل هذا يقول: وأنا منذ هذه اللحظة لن أحدث إلا صدقاً ما بقيت، هذا هو المقصود، فالإنسان كلما سمع بشيء من هذه الفضائل لا يستأسر لضعفه البشري الذي حصل فيما مضى، لكن ينشئ من اللحظة عزماً أن يفعل فعل أصحابها، فالإنسان ما دام فيه عرق ينبض ونفس يتردد ودم يسري وروح يجري في بدنه، فهناك أمل في أن يصبح من أعظم أولياء الله، فباب الولاية مفتوح، تستطيع أن تترقى إلى أعلى المقامات، ولن يمنعك مانع بإذن الله عز وجل.
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك فليس لدى المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك إذا طرقت باب الأخلاق الحسنة لن تجد حاجباً يحجبك عن الدخول، بل ستدخل، لكن المشكلة أن الشيطان يثبط الإنسان، فكلما أراد أن يقوم يختم على قلبه ويقول: أمامك ليل طويل فاقعد في وادي المعاصي ونم، لكن الإنسان ينبغي أن تتحرك همته إذا سمع مثل هذه المعاهدات، هذا عهد مع الله: (إن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت)، إلى أن أموت، ومشكلة الكذب أن الإنسان ينظر إلى المصلحة التي ستترتب على الكذب، ويقول: لو لم أكذب ولو لم أعمل الشهادة المزورة سأحرم من العلاوة مثلاً، أو لا أمنح الإجازة! وهذا من باب الكذب، فتتصرف على أنها شيء عادي جداً، وبدون أدنى تحرج وبمنتهى البساطة يعمل الإنسان شهادات مزورة، ويزور بطاقات، ويزور وثائق، ويكذب في البيانات، فهو إذا صدق قد يخسر فعلاً بعض الأشياء، لكن ينبغي أن يحسن المقارنة بين مكاسب الصدق وأضرار الكذب، فأخبث أضرار الكذب -على الأقل- حتى على الإنسان الذي ليس عنده دين، أن الكاذب سيخسر نفسه، فيكون فاقداً لثقة النفس، فاقداً ثقة الناس به أيضاً، ثم إنه يكتب عند الله: كذاباً، يدعى عند الله الكذاب فلان بن فلان!! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
فهل ترضى أن تكتب عند الله كذاباً في ديوان القائمة السوداء للكذابين، وإذا ذكرتك الملائكة تقول: الكذاب فلان؟! فينبغي للإنسان أن يتحرى الصدق حتى لو كلفه؛ لأنه قد يظن أنه يخسر، لكن بالصدق سوف يكسب، ومهما كانت الخسائر في الجانب الآخر، فيكفي أن من بركة الصدق أنه باب إلى كل أنواع الخير والطاعات، فالصدق يهدي إلى البر.
ولذلك كان بعض الشيوخ إذا أتاه شاب تائب وأراد أن يستقيم، ويسأله: ماذا أفعل كي أطيع الله؟ لا يكثر عليه من التكاليف، ولا يقول له: عليك بالصلاة والصيام وكذا وكذا، بل يقول له: عليك بالصدق فقط، أخذاً من هذا الحديث، (فإن الصدق يهدي إلى البر)، فإذا التزم بالصدق فكل حياته ستستقيم، ديناً ودنيا.
يقول: فأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه، كما قال تبارك وتعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:٢٣] في عقد العزيمة ووعد الخليقة، كما قال في إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:٥٤]، وإذا روعي في المواطن كلها، لو أن الإنسان في كل موقف حرص على الصدق حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل؛ صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات، كأنه أصل شجرة الكمال، وبذر ثمرة الأحوال.
ولما أوجب تعالى الكون مع الصادقين أشار تعالى إلى أن النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب كفاية، فلا يجوز تخلف الجميع، ولا يلزم النفر للناس كافة، فقال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:١٢٠].