[فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه]
ابن القيم له في كتاب (الفوائد) عبارات طيبة في غاية الجمال والروعة في بيان جمال هذه العبارة (إن الله معنا).
قال عليه الصلاة والسلام: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! إن الله معنا)، فكان الله معهما في الغار بالنصر والتأييد، كان الله معهما؛ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هو الوحيد الذي حظي بلقب خليفة رسول الله، فاجتمع في هذه الإضافة (إن الله معنا) الله ورسوله وخليفة رسول الله، وشاء الله أنه عندما تولى عمر الخلافة أرادوا أن يقولوا خليفة خليفة رسول الله، فقالوا: إن هذا يطول، فمن ثم رأى عمر الاقتصار على أن يسمى بأمير المؤمنين، فشاء الله أن يحتفظ أبو بكر بهذا اللقب؛ كي يبقى مستأثراً بهذه الفضيلة (إن الله معنا) فيقال: خليفة رسول الله، فالخليفة بجانب رسول وبجانب الله سبحانه وتعالى.
وفضائل أبي بكر رضي الله تعالى عنه كثيرة، فسورة الفاتحة فيها فضيلة أبي بكر وذلك في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:٦ - ٧] فنحن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم، وفي مقدمتهم بعد الأنبياء أبو بكر.
وبين الله في آية أخرى صفة الذين أنعم عليهم فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:٦٩]، والأمة مجمعة على تسمية أبي بكر بـ الصديق رضي الله تعالى عنه.
وفي هذه الآية دليل على إمامة أبي بكر وأنه ممن يؤتسى ويقتدى به.
ومن فضائله قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:١٦]، فهنا رغبهم الله سبحانه وتعالى في طاعة من يأمرهم بقتال الأعراب المرتدين، فمن الذي قاتل هؤلاء؟ إنه أبو بكر، والله عز وجل هنا يأمر بطاعته، وهذا حصل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا، فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!).
نفس اليقين ونفس الجزم بنصرة الله سبحانه وتعالى، كما وقع من موسى عليه السلام لما أدركهم آل فرعون عند ساحل البحر الأحمر فقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١]، البحر أمامنا والعدو خلفنا (إنا لمدركون) ماذا قال لهم موسى؟ {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢]، ثقة ما بعدها ثقة، وتوكل على الله سبحانه وتعالى، وحسن ظن بالله، ويقين صادق، وهو لا يعرف كيف سيكون المخرج، لكن مع ذلك هو واثق من أن الله سبحانه وتعالى الذي وعده بالنصر والنجاة سينجز وعده، كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحزن إن الله معنا) (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:٤٠] أي: أمانته التي تسكن عندها القلوب.
(عليه) أي: على النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:٤٠] أي: أنزل الملائكة؛ ليحرسوه في الغار، أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين، فتكون الجملة معطوفة على قوله: (نصره الله).
وقوى أبو السعود الوجه الثاني بأن الأول يأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة:٤٠] أي: المغلوبة المقهورة.
والكلمة هي الشرك أو دعوة الكفر، فهو مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به على أنها الشرك، أو هي بمعنى الكلام مطلقاً على أنها دعوة الكفر.
{وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:٤٠] أي: التوحيد أو دعوة الإسلام التي لا تزال عالية إلى يوم القيامة.
(وكلمة الله) بالرفع على الابتداء.
(هي العليا) مبتدأ وخبر، أو تكون (هي) ضمير فصل.
وقرئ بالنصب أي: (وجعل كلمةَ الله) والأول أوجه وأبلغ؛ لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت، وأما الجعل لم يتصرف لها؛ لأنها في نفسها عالية لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها، كلمة الله عالية في كل حال.
ولذلك في هذه القراءة: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة:٤٠]، اقتصر على جعل (كلمة الذين كفروا السفلى) لكن ابتدأ بداية جديدة فقال: (وكلمة الله هي العليا) ولم يقل: وكلمةَ الله هي العليا، وهذا أوجه كما رجحه القاسمي، فـ (كلمة الله هي العليا) تكون جملة من مبتدأ وخبر؛ لأنها تدل على الثبات والدوام، وعدم تعرضها للتغيير والتبديل.
وفي إضافة الكلمة إلى الله إعلاء لمكانها، وتنويه لشأنها.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ} [التوبة:٤٠] أي: غالب على ما أراد.
{حَكِيمٌ} [التوبة:٤٠] في حكمه وتدبيره.
قال بعض المفسرين: استدل على عظيم محل أبي بكر رضي الله عنه من هذه الآية من وجوه: منها: قوله تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن).
وقوله: (إن الله معنا).
وقوله: (فأنزل الله سكينته عليه) قيل: على أبي بكر؛ لأنه كان خائفاً، وهو المحتاج إلى الأمن، وقيل: على الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال جار الله الزمخشري: وقد قالوا: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر؛ لإنكار كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هنا قال: (إذ يقول لصاحبه)، فالآية هنا تثبت صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: أنا والله صاحبك، فمن هنا قالت المالكية: من أنكر صحبة أبي بكر كفر وقتل بخلاف غيره من الصحابة لنص القرآن على صحبته.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر: (أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار).
أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وقد ساق الفخر الرازي اثني عشر وجهاً من هذه الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه فأطال وأطاب.