للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سخاء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها]

جاء في موطأ مالك: أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن مسكيناً سألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت -أو إنسان- ما كان يهدى لنا شاة وكفنها -أي: أن الشاة كانت ملفوفة بالرغف- فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت -أو إنسان- ما كان يهدى لنا شاة وكفنها، فدعتني عائشة فقالت: كُلي من هذا، فهذا خير من قرصك، أي: القرص الذي كانت أعطته.

ففي هذا أن عائشة كانت قوية التوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن الله عوضها وأبدلها خيراً مما بذلته لوجه الله عز وجل، ورزقها من حيث لا تحتسب.

يقول القرطبي: قال علماؤنا هذا من المال الرابح، والفعل الزاكي عند الله تعالى، يعجل منه ما شاء، ولا ينقص ذلك مما يدخر عنه.

يعني: أن مثل هذا الفرج هو سنة ماضية من سنن الله سبحانه وتعالى، فمن أعطى شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومع ذلك فإن هذا لا ينقص شيئاً من أجره المدخر على ما أنفقه في سبيل الله تبارك وتعالى، ومن ترك شيئاًَ لله لم يحسن بفقده؛ لأن الله سبحانه وتعالى أن يعقبه غنى النفس وهو أعلى درجات الغنى على الإطلاق، وإما أن يعقبه ما هو خير منه، وهناك كتاب مؤلف يحتوي على من بذل شيئاً لله فعوضه الله خيراً منه، وهناك كتب كثيرة جداً في هذا المجال.

وعائشة رضي الله تعالى عنها في شأنها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وُقي شح نفسه، وأفلح فلاحاً لا خسارة بعده، وفي بعض المناسبات الأخرى: أن عمر بعث إليها بعشرة آلاف من الدراهم، فأخذت تأمر الخادمة أن توزع: أعطي آل فلان، وأعطي بني فلان، فوزعته حتى لم تُبقِ درهماً واحداً، فلما أتى وقت إفطارها لم تجد شيئاً تفطر عليه، فقالت لها الخادمة: هلا استبقيت لنا مالاً نشتري به شيئاً نفطر عليه؟ فقالت لها: لا تعنفيني أو لا توبخيني، لو أذكرتني لفعلت.

فهكذا عائشة رضي الله تعالى عنها، فذلك الجوع والنصب قد انتهى، فليست الآن حية حتى تعاني منه، لكنها إن شاء الله الآن في نعيم لا ينقطع، ورضا من الله سبحانه وتعالى، فهكذا العمل الصالح يُذهب النصب، ويبقى الأجر والنعيم، بخلاف السيئات.

يقول: ومعنى: شاة وكفنها: أن العرب أو بعض وجوه العرب كان هذا من طعامهم، فيأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه فيغطونه كله بعجين البر ويكفنونه به، ثم يعلقونه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم.