[خلاف العلماء فيما تكتبه الملائكة]
توقف الشنقيطي رحمه الله تعالى عند قوله تبارك وتعالى: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)) فقال رحمه الله: اعلم أن العلماء اختلفوا في عمل العبد الجائز الذي لا ثواب ولا عقاب عليه، هل تكتبه الحفظة عليه أو لا؟ فالآية تفيد بظاهر عمومها أنه ما من لفظ يتلفظه الإنسان فإنه يترتب عليه ثواب أو عقاب، فهل يكتب عليه الكلام المباح ويدون في صحيفته؟ قال بعضهم: يكتب عليه كل شيء حتى الأنين في المرض، وهذا هو ظاهر قوله: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)) لأن قوله تعالى: (من قول) نكرة في سياق النفي، زيدت قبلها لفظة (من) فهي لفظ صريح في عموم الأعمال، فتدل أن الملائكة تكتب ما يتلفظ به الإنسان حتى الكلام المباح الذي لا ثواب عليه ولا عقاب.
وقال بعض العلماء: إن الملائكة لا تكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب، أما المباح فلا تكتبه، وكلهم مجمعون على أنه لا جزاء إلا فيما فيه ثواب أو عقاب.
فالذين يقولون: لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب، والذين يقولون: يكتب الجميع؛ متفقون على إسقاط ما لا ثواب فيه ولا عقاب إلا أن بعضهم يقولون: لا يكتب أصلا، وبعضهم يقول: يكتب أولاً ثم يمحى.
وزعم بعضهم أن محو هذا الجزء من الكلام المباح وإثبات ما فيه من ثواب وعقاب هو معنى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩] وهذا قول مرجوح، وقد سبق الكلام فيه في آخر سورة الرعد، لكن المقصود أن كلا الفريقين يثبت أنه لن يحاسب على المباح، ولن يحاسب على الجائز من الكلام، وإنما اختلفوا هل يثبت أم لا يثبت؟ والذين قالوا: يثبت.
يقولون: يثبت ثم يمحى بعد ذلك، والذين قالوا: لا يكتب ما لا جزاء فيه، ولا يترتب عليه ثواب أو عقاب، محتاجون إلى الجواب عن استدلال الفريق الأول بهذه الآية؛ لأن هذه الآية نص صريح في العموم.
فقالوا في
الجواب
إن في الآية نعتاً محذوفاً سوغ حذفه العلم به؛ لأن كل الناس يعلمون أن الجائز لا ثواب فيه ولا عقاب، وتقدير النعت المحذوف: ((ما يلفظ من قول)) مستوجب للجزاء ((إلا لديه رقيب عتيد))، والجزاء قد يكون خيراً أو شراً.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد قدمنا أن حذف النعت إذا دل عليه دليل أسلوب عربي معروف، وقدمنا أن منه قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:٧٩] أي: كل سفينة صالحة.
لكن لا بد أن يأتي دليل يدل على الحذف، والدليل في هذه الآية قوله: (فأردت أن أعيبها) فهذا يدل على أن السفينة كانت صالحة سليمة، وهو أراد أن يعيبها؛ فهذه القرينة تدل على أن النعت المحذوف هو النعت المتعلق بالسفينة.
وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء:٥٨] هنا حذف تقديره: (وإن من قريةٍ ظالمةٍ إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة) والدليل على الحذف قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:٥٩].
ومن شواهد هذا المذهب -وهو جواز الحذف إذا دل دليل عليه- قول المرقش الأكبر: ورب أسيلة الخدين بكر منعمة لها فرع وجيد أي: لها فرع فاحم، أي: شعر أسود، (وجيد) يعني: عنق طويل، قدرنا هذا لأن السياق سياق مدح وغزل، وهو لم يذكر الوصف لكنه يفهم من السياق.
ومنه أيضاً قول عبيد بن الأطرف: من قوله قول، ومن فعله فعل، ومن نائله نائل.
أي: (من قوله قول) فصل، ومن فعله فعل جميل، ومن نائله نائل جزيل.
فهذا كله من الشواهد التي تدل على أنه يجوز حذف النعت إذا دل عليه دليل، والله عز وجل في أكثر من موضع في القرآن الكريم يصف القرآن بأنه عربي، فما ثبت في اللغة عند العرب الأصليين وقت ظهور الإسلام أو قبله لا حرج من الاستشهاد به.