للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك)]

قال تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:٧].

يقول القاسمي {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}: أي: ذات الطرق المختلفة التي هي دوائر سير الكواكب، فالطرق المختلفة هي مدارات الكواكب التي تسير فيها بنظام.

قوله: ((الحبك)) أصل معناها ما يرى كالطريق في الرمل والماء إذا ضربته الريح، إذا كان هناك ماء ساكن ثم هبت عليه الريح فإنك ترى تموجات صغيرة تتكسر على سطح الماء، هذه الأشياء التي ترسمها الرياح على سطح الماء تسمى الحبك، كذلك الرمال إذا هبت عليها الريح ورسمت فيها التكسرات فهذه أيضاً تسمى الحبك.

وكذلك حبك الشعر أثناء تثنيه وتكسره، والحبك: جمع حباك، كمثال ومثل وكتاب وكتب، أو حبيكة كطريقة وطرق، ويقال: ما أملح حباك، وحباك الحمام: وهو سواد ما فوق جناحيه، وعن الحسن في معنى: ((والسماء ذات الحبك)) قال: حبكت السماء بالنجوم؛ وذلك لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى تحبيكه، فالتحبيك بمعنى التزيين.

فشبهت النجوم بطرائق الوشي.

وقال بعض علماء الفلك: الحبك جمع حبيكة بمعنى: محبوكة، أي: مربوطة، ((والسماء ذات الحبك)) أي: ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية، فإن كل حبيكة هي مجموعة من الكواكب المتجاذبة، فالآية الشريفة نص على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يزعم الإفرنج أنهم مكتشفوها، وعليه فهي إحدى معجزات القرآن العلمية، فهي إخبار عن تعدد المجموعات الشمسية، أو تعدد المجرات، وهي بالملايين كما هو معروف، والله تعالى أعلم.

يقول الشنقيطي في قوله تعالى: ((والسماء ذات الحبك)): فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك، وعليه فمعنى ((ذات الحبك)) أي: ذات الطرائق، كما يطفو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح فهذا هو الحبك، قالوا: ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك، ومن هذا المعنى قول زهير وهو يصف غديراً: مكلل بأصول النجم تنسجه ريح خريق لضاحي مائه حبك فقوله: (مكلل بأصول النجم) المقصود بالنجم هنا النبات الذي ليس له ساق، ينبت حول الماء كالإكليل، قال عز وجل: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:٦] والشجر هو ما له سوق.

(تنسجه) أي: تأتي ريح شديدة فتنسج هذه الطرق.

(لضاحي مائه) أي: ما ضحى للشمس من الماء وبرز.

(حبك) أي: هذه الطرائق التي تأتي على الماء فتحدث فيه هذه الطرائق والتكسرات في الماء.

وقال بعض أهل العلم: ((ذات الحبك)) أي: ذات الخلق الحسن المحكم، وهذا الوجه يدل عليه قول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:٣ - ٤].

إذاً: الحبك على هذا القول مصدر؛ لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه تقول فيه العرب: حبكه يحبكه حبكاً، حبكاً بالفتح على القياس، (والحبك) بضمتين بمعناه.

وقال بعض العلماء: ((والسماء ذات الحبك)) أي: ذات الزينة، فهذه الآية تكون كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:٥] وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق:٦]، وقال بعضهم: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:٧] أي: ذات الشدة، يدل لهذا قول الله سبحانه وتعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:١٢]، والعرب تسمي شدة الخلق حبكاً، ومنه: قيل للفرس الشديد الخلق: محبوك، ومنه: قول امرؤ القيس: قد غدا يحملني في أنفه لاحق الإطلين محبوك ممر قوله: (محبوك ممر) يعني: فرس شديد، والآية تشمل الجميع، وكل الأقوال في هذه الآية التي ذكرناها حق، سواء قلنا: إن ((ذات الحبك)) يعني: ذات الطرائق، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الخلق الحسن المحكم، يقول: هذه قصة محبوكة حسنة محكمة، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الزينة، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الشدة، فهذه الأقوال لا تتعارض وكلها حق.

والمقسم عليه في هذه الآية هو قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:٨ - ٩].