[عقيدة التثليث عند النصارى وبيان بطلانها]
قوله: ((وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ)) أي: ولا تقولوا: إن الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:١١٦]؟ وقد ذكر السيد: عبد الله الهندي في مناظرته مع قسيس الهند، حكايةً عن مناظره، بأنه حكى -يعني: هذا القسيس في القصة المعروفة في الهند- أن فرقة من النصارى كانت تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم، قال: ولعل هذا الأمر مكتوب في نسخهم؛ لأن القرآن كذبهم، وبصورة أخرى أذكر أن كبير النصارى ومقدمهم (شنودة) كان من سنوات طويلة يظهرونه على أنه نجم من نجوم المجتمع، كان يتكلم وهو يعرف أن عقيدته حافلة بالعورات، بل كلها عورات، والأولى له أن يستر على نفسه ويسكت عن نشر الباطل الذي هو عليه، لكنه يموه ويحاول أن يخدع المسلمين، ولا يستطيع خداع المسلمين إلا بالتمويه بأن يظهر أنه مثل المسلمين، وهو يحس ويشعر بهذه العقدة، أن عقيدته عقيدة التثليث لا يمكن أن تنظف وتطهر ولو غسلت بماء البحار، وتراه يعرض في كلامه ولا يريد أن يهاجمنا بطريقة مباشرة، ونشر له هذا الكلام في مجلة الهلال.
فكان يقول في هذه المجلة: البعض يقولون: إننا نقول إن مريم ثالث ثلاثة.
يعني: أن الآلهة هي: الأب والابن ومريم! من قال هذا؟ هذا غير صحيح، ونحن لا نقول هذا.
فإذا كنت أنت وسائر النصارى لم تستطيعوا ضبط أصل أصول دينكم وألحدتم فيه هذا الإلحاد، وزعمتم أن (١ + ١ + ١=١) مريم هي عليها السلام أم الله؟!.
فهو يحاول أن ينكر ذلك، لكن ما دام أن الله قد حكاه عنهم، فهو قطعاً قد حصل، فإما أن هذا الرجل يكذب، وإما أنه جاهل بتاريخ فرقهم وما أكثرها.
وهذا الشيخ أبو محمد عبد الله الترجمان والذي سبق أن تكلمنا في قصة إسلامه من قبل، فقد كان أكبر علماء النصارى في أوائل القرن التاسع الهجري، ودخل في الإسلام وله قصة جميلة، وله كتاب مشهور اسمه: (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) حتى إن هذا الرجل اشتهر في بلاد المغرب باسم: سيدي تحفة، نسبة إلى كتابه (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) من كثرة ما اشتهر بهذا الكتاب، فيقول في قصته التي ذكرها في التحفة: وبعضهم يقول: الثلاثة هم الله تعالى، وعيسى بن مريم والروح.
ولا يشك ذو عقل سليم أن كل من أوتي مسكة من العقل يجب عليه أن يرغب بنفسه عن اعتقاد هذا الإفك الغثيث البارد السخيف الرذيل الفاسد الذي تتنزه عنه عقول الصبيان، ويضحك منه ذوو الأفهام والأذهان.
يقول: فالحمد لله الذي أخرجني من زمرتهم، وعافاني من بليتهم.
ثم يقول: هناك فرقة تسمى: البربرانية، التي كانت تذهب إلى القول بألوهية المسيح وأمه معاً.
ويقرر ابن البطريق مذهب هذه الفرقة فيقول: ومنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم البربرانية ولعل هؤلاء هم الذين يشير إليهم القرآن الكريم فيما يخاطب الله به تعالى عيسى بن مريم عليه السلام إذ يقول: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:١١٦]، وإذ يرد عليهم في قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:٧٥] هذا السياق يفيد أنهم يزعمون أن عيسى وأمه إلهان؛ لأن الرد هنا على هذه الفرقة التي تزعم ذلك، ولذلك قال: ((كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ))، يعني: أن الذي يحتاج إلى أكل الطعام يحتاج أيضاً إلى الإخراج، ومن الذي خلق الطعام؟ إنه الله، فهل الخالق يحتاج إلى مخلوق؟ هل الخالق يحتاج إلى طعام وشراب وإلى قضاء حاجة والعياذ بالله؟!! {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:٧٥].
والذين يحاولون أن يتبرءوا من أنهم يعبدون مريم عليها السلام، يتخذون أصناماً لـ مريم عليها السلام ويتمسحون بها، ويتوجهون إليها بالدعاء والبكاء، ويسجدون أمامها في الكنيسة حيث يوجد تمثال مريم عليها السلام، فهذا في الحقيقة معروف عنهم ومتواتر، فنقول لهم: لم تتبرءون من شيء واضح مثل الشمس؟ أليس عبادة المرء ودعاؤه وبكاؤه أمام صنم، أو أمام تمثال لـ مريم عليها السلام أليس هذا من اتخاذ آلهة من دون الله؟! وهذا من الأشياء الأساسية في ملتهم، فإذا ألغينا من النصرانية التماثيل والصور وهذه الأشياء لما بقي فيها شيء كثير، فكل عمدة دينهم هو هذه الصور والتماثيل.
قوله: ((وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ)) يعني: أن الثلاثة هم: الله، والمسيح، ومريم، أو لا تقولوا: ثلاثة أقانيم فتكون الآية ترد على الفرق الأخرى الموجودة كالكاثوليك أو الأرثوذكس وغيرهم.
فقوله: ((لا تقولوا ثلاثة)) أي: ثلاثة أقانيم والتي هي: الأب والابن وروح القدس.
وقد ذكر القاسمي رحمه الله تعالى عن بعض كتبهم النصرانية مباشرة عبارات ما نطيق أن نحكيها في الحقيقة؛ لأن فيها شركاً صراحاً، وفيها وصفاً للثلاثة الأقانيم، بأن كل أقنوم له خصائص وله ذاته المختصة بصفات معينة عندهم، والمتميزة بها، ولكنها كلها شيء واحد والعياذ بالله.
يقول حكاية عنهم: ولا نقدر أن نفهم جيداً هذه الحقائق؛ لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري.
فهم يعترفون أنهم ثلاثة وفي نفس الوقت يتناقضون، ومع هذا التناقض يقولون: نحن لا نستطيع أن نفسر هذا، ما أعسرها من عقيدة! ولذلك لما اتخذ بعض المسلمين حاسباً نصرانياً وبلغ ذلك الخليفة، كتب إليه الخليفة أو غيره قائلاً: كيف تأمن على الحساب من لا يتقن الحساب، واحد يقول إن: (١+١+١=١)!.
يعني: كيف توظفه محاسباً عندك وهو ما يعرف أن يجمع (١+١+١) يقول: إنها تساوي (١) هل هذا يصلح أن يكون حاسباً!.
فهم يقولون: الأقانيم موجودة، لكنها ثلاثة وهي واحد، ومادام أنها موجودة فهي متميزة، يعني: أن كل إله مستقل بذاته.
يقول في كتاب الصلاة الرائج في إنجلترا: أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلةً -يعني: هذا في كتابهم يخاطبهم بأنهم والعياذ بالله ثلاثة- كذلك مريم يعبرون عنها بأنها أم الله أو أنها زوجة الله، ويسجدون لها ولصورتها السجود الذي لا يجوز إلا لله، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ من الضلالات، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان.
والكتب في الرد على ضلال النصارى خاصة في مسألة التثليث كثيرة جداً، فلا نطيل الكلام في ذلك.
والاختلافات في النصارى كثيرة جداً، حتى قيل: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً.
يعني: لو اجتمع عشرة من النصارى وتناظروا واختلفوا فإنهم سيأتون بمذهب جديد، ثم ذكر كلاماً كثيراً طويلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (الرسالة القبرصية).
يقول الماوردي في أعلام النبوة: فأما النصارى فقد كانوا قبل أن يتنصر قسطنطين -يعني: قبل دخول قسطنطين في النصرانية كان دينهم صحيحاً في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى عليه السلام- ثم اختلفوا في عيسى بعدما تنصر قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم؛ لأن الروم كانوا صابئة، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم، فقال أوائل النسطورية: إن عيسى هو الله، وقال أوائل اليعقوبية: إنه ابن الله، وقال أوائل الملكانية: إن الآلهة ثلاثة أحدهم عيسى، ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر حين استنكرته النفوس ودفعته العقول.
في الأخير لما وجدوا أن كلمة (ثلاثة) صراحة منفرة، اخترعوا بعد ذلك بقرون أن الله جوهر واحد، لكنه ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس، وأنها واحدة في الجوهرية.
واختلفوا في الأقانيم فقال بعضهم: هي خواص، وبعضهم قال: هي أشخاص، وبعضهم قال: هي صفات، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى، واختلفوا في الاتحاد، وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول، وفسادها ظاهر، فمن ثم قال تبارك وتعالى: ((انتهوا خيراً لكم)) أي: انتهوا عن التثليث خيراً لكم، أو اقصدوا خيراً من التثليث وهو التوحيد.
قوله: ((إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) يعني: واحد بذاته لا تعدد فيه بوجه ما.
((سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ)) تنزيه لمقامه جل شأنه عما زعموه من بنوة عيسى حيث قالوا: إنه الله أو ابن الله.
وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى واسم الابن على العبد الصالح في الكتب السابقة، قال: فهو إما من الخلط في الترجمة وإما مؤول بهذه التأويلات، فكانوا يعبرون عن الإله بأنه أبوهم، ولذلك قال المسيح لليهود: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني.
وكونهم يطلقون اسم الأب على الله تعالى واسم الابن على العبد الصالح هذا من المجاز، ولذلك كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، لكن في الملة المحمدية الشريفة منع استعمال هذا الإطلاق وحسم الأمر؛ تحرزاً من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام، وهذا هو طريق الرشد، فلا يجوز أن يطلق على الله الأب أو على العباد الصالحين أنهم أبناء الله؛ لكن هذا كان يستعمل في لغتهم إما مجازاً بالمعنى الذي ذكرنا، وإما أنه من ضلالهم وتخبطهم في الترجمة.
((إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ)) يعني: هذا تعليل لتنزيه الله سبحانه وتعالى عن أن يكون له ولد، أو يكون ثالث ثلاثة.
((لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) يعني: كل ما في السماوات وما في الأرض هو مخلوق من مخلوقات الله، وهو ملك لله سبحانه وتعالى، فكيف يكون بعض ملكه جزءاً منه، فالمسيح عليه السلام عبد لله وملك لله، ومخلوق من مخلوقات الله، فكي