تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله قد أحسن الله له رزقاً)
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق:٨ - ١١].
قوله تعالى: (وكأين من قرية عتت) أي: عصت.
(عن أمر ربها) يعني: أعرضت عن أمر ربها على وجه العتو والعناد، والمراد بالقرية هنا أهلها.
(ورسله) يعني: وعتت عن أمر رسله كذلك.
(فحاسبناها حساباً شديداً) يعني: على ما قدمت، فلم نغادر منه شيئاً.
(وعذبناها عذابا نكراً) أي: منكراً.
(فذاقت وبال أمرها) أي: عاقبة ما اكتسبت وجزاءه، فالوبال هنا بمعنى العاقبة.
(وكان عاقبة أمرها خسراً) قال ابن جرير: أي: غبناً؛ لأنهم باعوا نعيم الآخرة بشيء من الدنيا قليل، وآثروا اتباع أهوائهم على اتباع أمر الله تبارك وتعالى.
والصيغة هنا جاءت بلفظ الماضي (فَذَاقَتْ) مع أن هذا سيكون في الآخرة، فهي كقوله تبارك وتعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:٤٤] ونحو ذلك مما سيقع في المستقبل، ولكن عبر عنه بالماضي لتحقيق الوقوع؛ ولأن وعد الله ووعيده كأنه واقع بالفعل، وما هو مقدر لك من قبل فكأنه قد وقع بالفعل.
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) يعني: عذاب النار المعد يوم القيامة.
قوله تعالى: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا)) كقوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الحج:٤٥]، وكقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف:٥٩] وهذا كله بيان لأصحاب الرئاسة ورجال السياسة أن هلاك الدنيا بفساد الدين، وأن أمن القرى وطمأنينة العالم بالحفاظ على الدين.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عامة الناس للحفاظ على دينهم وسلامة دنياهم، فجعل الشارع مهمته للأمة كلها كل بحسبه باليد أو باللسان أو بالقلب، وهذا الأخير هو أضعف الإيمان، ومع أنه أضعف الإيمان لكن وجوده أمر مهم حتى يبقى إحساس القلب بالمنكر إلى أن يقدر هو أو يقدر غيره على تغييره، ولذلك فليس وراء ذلك شيء من الإيمان، ومن ثم يكون النهي عن المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم؛ لأنه لا يعجز أحد عن أن ينكر بقلبه، وأن يشهد الله على أن هذا منكر لا يرضيه، بخلاف اليد واللسان فلا يقدر عليها كل إنسان في كل ظرف.
ومنطوق هذه الآية: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) أن هذا جزاء الذين أعرضوا عن سبيل الله تبارك وتعالى، وقد بين الله مفهوم هذه الآية صراحة بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:٤١].
(فَاتَّقُوا اللَّهَ) أي خافوه واحذروا بطشه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
(يا أولي الألباب) أي: العقول.
(الذين آمنوا) أي: صدقوا الله ورسله، فهذا نعت للمنادى أو عطف بيان له.
قوله: (قد أنزل الله إليكم ذكراً) يحتمل أن هذا الذكر هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعله نفس الذكر مبالغة؛ لذلك أبدل منه، فتعرب (رسولاً) بدلاً من (ذكراً)، ويحتمل أن يكون المراد بالذكر هو القرآن الكريم، ثم قال: ((رَسُولًا)) يعني: وأرسل رسولاً يتلو عليكم آيات الله، وهذا بتقدير (أرسل).
ويحتمل أن يراد بالذكر هنا الشرف، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:٤٤] أي: شرف وعلو لك ولقومك.
{رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} يعني: لمن تبعها وتدبرها أنها حق من عند الله تبارك وتعالى.
{لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: من الضلال إلى الهدى.
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} يعني: رزقا طيباً، وفيه إكرام له وتعظيم، والمعنى: قد طيب الله له هذا الرزق، وهو رزق عجيب وعظيم؛ لذلك أتى به منكراً.