للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى)]

قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:٨ - ٩].

قوله: ((ثُمَّ دَنَا)) يعني: أنه دنا بعدما استوى في أفق السماء، أي: اقترب جبريل عليه السلام من محمد صلى الله عليه وسلم.

قال ابن جرير: هذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما هو: ثم تدلى فدنا، ولكنه حَسُنَ تقديم قوله: ((دَنَا)) إذ كان الدنو يدل على التدلي والتدلي على الدنو، كما يقال: زارني فلان فأحسن، أو تقول: أحسن إلي فزارني.

وقال الشهاب: التدلي: مجاز عن التعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الدنو منه، لا بمعنى التنَزُّل من علو كما هو المشهور، أو هو: دنو خاص بحالة التعلق فلا قلب ولا تأويل بإرادة الدنو.

ونقول: لا داعي لافتراض المجاز؛ لأن الأصل حمل كل شيء في القرآن الكريم على الحقيقة.

وقوله تعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)، أي: كأن مسافة ما بينهما مقدار قوسين أي: بقدرهما إذا مدا، أو أقرب، أو الضمير لجبريل بأن قربه قدر ذلك.

يقول الشهاب: وقاب القوس وقيده: ما بين الوتر ومقبضه.

والمراد به هنا المقدار، فإنه يقدر بالقوس كالذراع، فهذه إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله إذا تحالفوا -يعني: إذا أجروا وعقدوا حلفاً فيما بينهم- أخرجوا قوسين، ويمسكون أحداهما بالأخرى، فيكون القاب ملاصقاً للآخر، حتى كأنهما ذوا قاب واحد، ثم ينزعانهما معاً ويرميان بهما سهماً واحداً، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدها رضا الآخر، وسخطه سخطه، لا يمكن خلافه، كما قال مجاهد، وارتضاه عامة المفسرين.

فهذا هو السر في هذا التعبير عن القرب بـ ((قَابَ قَوْسَيْنِ))، فالعرب كانوا يتحالفون في الجاهلية، والحلف في الجاهلية: أن تنصر هذه القبيلة القبيلة الأخرى سواء كانت ظالمة أم مظلومة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام)، يعني: مثل هذا الحلف الذي كان يقع في الجاهلية، فكانوا يأتون بقوسين، فيلصقون أحد القوسين بالآخر، فيشكلان نصف دائرة، ثم يضعون فيهما سهماً واحداً ويرمون هذا السهم معاً، يعني: أنها عملية رمزية في صورة حسية تؤكد التزامهم بهذا الحلف، ولذلك يقال دائماً لما يُعبر عن الوحدة: يرمون عن قوس واحدة، للدلالة على وحدة إرادتهم وتوحدهم ضد أعدائهم.

وقوله تبارك وتعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (أو) هنا لا تفيد الشك؛ لأنه لا يمكن أن يصدر عن الله سبحانه وتعالى شك، وإنما المقصود تحقيق قدر المسافة، وأن هذه المسافة لا تزيد على قوسين البتة.

وهذا تماماً مثل قول الله تبارك وتعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:١٤٧]، وليس هذا على الشك؛ ولكن المعنى: أنه إذا رآهم الرائي يقول: هم مائة ألف أو يزيدون؛ لكنه لا يرى احتمالاً أنهم يكونون أقل من مائة ألف، فهذا فيه تأكيد أنهم مائة ألف، كذلك هذه الآية الكريمة: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:٩]، ليست على وجه الشك، بل فيه تحقيق لقدر المسافة، وأنها لا تزيد على قوسين البتة، فالمعنى: ((فَكَانَ)) يعني: بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي، أي: لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك، فهو تمثيل لشدة القرب وتحقيق استماعه لما أوحي إليه.

وقيل: (أو) بمعنى: بل، أي: بل أدنى، على أنها للإضراب، وأدنى: أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف، يعني: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) من قاب قوسين.