للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة)]

يقول الله تبارك وتعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:٧].

هذا وعد من الله سبحانه وتعالى؛ لأن (عسى) في القرآن واجبة، وهي للترجي، وهي من الله واجبة الرجاء، فهذا وعد من الله، وقد أنجزه بأن أسلم كثير منهم بعد وصاروا لهم أولياء وأحزاباً، والآية من معجزات القرآن، لما فيها من الإخبار عن مغيب وقع مصداقه.

((وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) غفور لهمرحيم بهم بعدما أسلموا، فإن الإسلام يجب ما قبله.

وقيل في تفسير ذلك: إن الضمير يعود إلى كفار مكة.

وقيل: المودة هي تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فإنه لما تزوج الرسول عليه الصلاة والسلام أم حبيبة بنت أبي سفيان لانت عريكة أبي سفيان يعني: طبيعته ونخوته، واسترخت سكينته في العداوة حتى دخل هو نفسه في الإسلام.

يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: لم يبين هنا هل جعل المودة بالفعل بينهم وبين من عادوهم وأمروا بمقاطعتهم وعدم موالاتهم من ذوي أرحامهم أم لا؟ ولكن (عسى) من الله للتأكيد، يعني: أن (عسى) فيها فتح باب الرجاء والتأليف بأن يهدي الله منهم من يشاء، وهذه كأنها مكافأة من الله سبحانه وتعالى، أي: إن أنتم صارمتم وقطعتم وتبرأتم من هؤلاء مع كونهم من ذوي قرابتكم، فإن الله يكافئكم على ذلك أن يجعل بينكم وبينهم مودة.

وقوله: ((وَاللَّهُ قَدِيرٌ)) تشعر بأن الله فاعل ذلك، وأن هذا الوعد سوف يتحقق، وقد جاء ما يدل على أنه فَعله كما في سورة النصر حين قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:١ - ٢]، وقد فتح الله عليهم مكة وكانوا خلفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسلم أبو سفيان وغيره، وجاء الوفود في عام الوفود إلى المدينة بعد الفتح.

وقوله تعالى: ((وَاللَّهُ قَدِيرٌ)) يشعر بأن تأليف القلوب ومودتها إنما هو من قدرة الله تعالى وحده كما قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:٦٣]، ولأن المودة المتوقعة بسبب هداية الكفار لن تحصل حتى يؤمنوا بالله وحده، فلذلك يفهم من قوله تعالى: ((عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)) أن منهم من سيدخل في الإسلام، فيترتب عليه أن تكون بينكم وبينهم مودة بعد العداوة؛ لأن هذه العداوة نشأت أساساً بسبب الكفر، فلا يزيلها إلا أن يؤمنوا بالله وحده، فلذلك يفسر هنا قوله: ((عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)) بدخولهم في دين الإسلام؛ لأن الهداية منحة من الله كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦].