[تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)]
فقوله تعالى: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)).
قال ابن عباس ومجاهد: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، هم أهل مكة.
(كفروا) أي: بتوحيد الله، (وصدوا) أنفسهم والمؤمنين عن دين الله -وهو: الإسلام- بنهيهم عن الدخول فيه، فصدوا أنفسهم بعد الإيمان، وصدوا غيرهم بنهيهم عن الدخول في دين الإسلام.
فـ ((الَّذِينَ كَفَرُوا))، أي: جحدوا توحيد الله وعبدوا غيره، ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، أي: أعرضوا وامتنعوا عن الإقرار لله بالوحدانية، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، أو صدوا غيرهم عن ذلك فهذا هو تفسير القاسمي لقوله تعالى: ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)).
أي: أن الفعل (صدَّ) إما أنه فعل لازم، وإما أنه متعد، فإذا قلنا: إنه لازم، فمعنى (صدوا) أي: أعرضوا، وتقول مثلاً: فصد عني، أي: فأعرض عني، وإذا قلنا إنه متعد فالصد هنا بمعنى المنع، فالكافر يصد عن سبيل الله، أي: أنه يمنع الآخرين وينهاهم عن الدخول في دين الله عز وجل، وسيأتي تفصيل ذلك.
وقال الضحاك: ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: عن بيت الله بمنع قاصديه.
وقيل: هم أهل الكتاب.
والاسم الموصول في قوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا)) مبتدأ، والخبر قوله تعالى: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)).
وقد حقق العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى معنى هذه الآية الكريمة في تفصيل كثير جداً لا نحتاجه في القرآن الكريم؛ ولذلك نحن نقف معكم هذه الوقفة، يقول رحمه الله: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، قال بعضهم: هو من الصدود؛ لأن صد في الآية لازمة.
وقال بعضهم: ليس من الصدود، وإنما هو من الصد؛ لأن صد في الآية متعدية، وعليه فالمفعول محذوف، أي: صدوا غيرهم عن سبيل الله، وهو الدخول في الإسلام.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وهذا القول الأخير هو الصواب؛ لأنه على القول بأن صد لازمة، فإن ذلك يكون تكراراً، فصد يعني: أعرض هو عن الإسلام ولم يدخل فيه بنفسه، فيكون الفعل هنا صد من الصدود وهو الإعراض، فيكون تكراراً مع قوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، يعني: صد عن سبيل الله يكون توكيداً بكفروا، والتكرار عامة يكون للتوكيد؛ لأن الكفر هو أعظم أنواع الصدود أي: الإعراض عن سبيل الله.
أما على القول: بأن صد متعدية فلا تكرار؛ لأن المعنى: أنهم ضالون في أنفسهم، مضلون لغيرهم بصدهم إياهم عن سبيل الله، فهذا مثل قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:٩٧].
فإذا حملنا الحياة الطيبة على أنها الآخرة، وقوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} [النحل:٩٧] في الآخرة فإنه يكون توكيداً، لكن ممكن أيضاً أن يكون المعنى: ((فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)) هذا في الدنيا، ((وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ)) في الآخرة، فيكون على هذه الحال تأسيساً، وهو الأولى، فاللفظ إذا دار بين التأكيد والتأسيس وجب حمله على التأسيس إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
فالأرجح في قوله هنا: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) -والله تعالى أعلم- أن (صد) متعدية، والمعنى: أنهم كفروا في أنفسهم، وكانوا نشطين في دعوة غيرهم للبقاء على هذا الكفر، ونهوا الناس عن الدخول في دين الله، فالراجح إذاً هو حملها على التأسيس لا التوكيد.
((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ))، للمفسرين أقوال في تفسير قوله تعالى: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ))، قال القاسمي: أي: جعلها على غير هدى ورشاد.
وقال الضحاك: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطل كيدهم ومكرهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم.
وقيل: معنى ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطل ما عملوه في حال كفرهم مما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق، فهم في حالة كفرهم كانوا يفعلون بعض الأعمال من مكارم الأخلاق، كصلة الأرحام، وفك الأسارى، وحسن الجوار، وغير ذلك، فهذه الأعمال باعتبار أنها غير مبنية على العقيدة الصحيحة فإنها تحبط، ولا تستعظم في الآخرة، ولم يجعل الله لها جزاءً ولا ثواباً، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣]، فأعمالهم لا تنفعهم في الآخرة.
وقيل: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطلها، وقيل: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق.
يقول العلامة الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ))، أي: أبطل ثوابها، فما عمله الكافر من حسن في الدنيا، كقرى الضيف، وبر الوالدين، وحمى الجار، وصلة الرحم، والتنفيس عن المكروب فإنه يبطل يوم القيامة ويضمحل، ولا يكون له أثر، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣]، وهذا هو الصواب في معنى الآية.
لكن ينبغي أن ننتبه إلى أمر مهم جداً في القراءة، فنحن نقول: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطل ثوابها في الآخرة، فالكافر إذا عمل شيئاً من هذه الأعمال الحسنة فإنه يثاب عليها في الدنيا إذا شاء الله له ذلك، فالمجال الوحيد في أن يثاب على ما عمل هو: أن يثاب عليها في الدنيا فقط، وذلك بإيساع الرزق والصحة، وغير ذلك من الأمور في الدنيا، وأما في الآخرة فلا يثاب الكافر على عمل عمله وقد قدم على الله كافراً به، فلابد من العقيدة الصحيحة، وأما في الدنيا فقد يثاب بإذن الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:١٨].