[كلام ابن قدامة على صفة المعية ورده على المؤولة]
قال الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في كتابه ذم التأويل: فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً.
وهذه شبهات يتواصى بها أهل البدع جيلاً بعد جيل، يقولون: أنتم تحاربون التأويل وأنتم تؤولون؛ كما قال: فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً، فقلتم في قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم)، أي: معكم بالعلم، ونحو هذا من الآيات والأخبار، فيلزمكم ما لزمنا.
أي أن أهل البدع يقولون: أنتم تحرمون علينا التأويل وتحلونه لأنفسكم، أولتم هذه الآية؛ فيلزمكم ما يلزمنا؛ فكما أولتم فنحن أيضاً نؤول، وبدلاً من أن نقول: الرحمن على العرش استوى، نقول: الرحمن على العرش استولى، واليد هي القدرة؟ قال ابن قدامة: قلنا: نحن لم نتأول شيئاً، وحمل هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الأفهام منها، وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه حقيقة كان أو مجازاً، ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية المجاز دون الحقيقة كاسم الراوية والظعينة، وغيرهما من الأسماء العرفية؛ فإن ظاهر هذا المجاز دون الحقيقة، وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلاً يحتاج إلى دليل.
وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعي وحقيقة لغوية كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج، ظاهرها هو العرف الشرعي دون الحقيقة اللغوية، فالعرف في الصلاة ليس الدعاء، إنما الصلاة أفعال مخصوصة بشروط مخصوصة، كذلك الزكاة ليس معناها الطهارة أو التنمية، وإنما هي بمعنى: إخراج قدر مخصوص من المال بشروط مخصوصة آخره، كذلك الصيام، فالعرف الشرعي إذاً يقدم على الحقيقة اللغوية.
إذا تقرر هذا: فإن المتبادر إلى الفهم من قولك: إن الله معك، يعني بالحفظ والكلاءة، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى فيما أخبر عن نبيه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠]، وقال لموسى: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦]، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص؛ لوجوده في حق غيرهم كوجوده في حقهم، ولم يكن ذلك موجباً لنفي الحزن عن أبي بكر ولا علة له؛ فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه، فلم يكن تأويلاً.
ثم لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت صوابهم ووجب اتباعهم هم الذين تأولوه.
اهـ.
وهنا أمر مهم جداً، وقد نبهت عليه مراراً، وهو أنه لابد أن تكون واثقاً من هذه العقيدة؛ لأنها عقيدة مسندة، ونحن دائماً نشجع الإخوة على أن يدرسوا العقيدة من الكتب المسندة، أي: الكتب التي جاءت بالأسانيد، فذكرت فيها الأحاديث النبوية من البخاري ومسلم والترمذي وغيرها، حتى إذا أتى مشغب يقول لك: أنت سني أو وهابي، ويزعم أن ابن تيمية هو الذي اخترع هذا المذهب السلفي في العقيدة، قلت له: لو افترضنا أن ابن تيمية لم يخلق وابن عبد الوهاب لم يخلق، هل كانت ستضيع العقيدة السلفية؟ لا.
إن ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما من الأئمة، هم عبارة عن مجددين، أعادوا لنا السنة، ونفضوا عنها الانحرافات والبدع والأكاذيب، وأحدهم لا ينشئ من عنده مذهباً! فحينما نرفع عقيرتنا بهذه العقيدة الحقة، عقيدة السلف، فهذا كلام مسند، ولذلك ينبغي أن يرتبط الشباب دائماً بكتب العقيدة المسندة ككتاب الإمام اللالكائي أصول الاعتقاد، وكتب السنة، وكلمة السنة معناها العقيدة والتوحيد، وهناك الكثير جداً من الكتب التي تحمل هذا الاسم مثل: السنة لـ ابن أبي عاصم وغيره؛ بمعنى العقيدة.
فـ شيخ الإسلام لم يكن له فضل الإنشاء، وما أحدث ولا ابتدع؛ ولذلك تحدى مخالفيه وأعطاهم مهلة، فقال: ائتوني بكلمة واحدة تخالف ما أقوله، وكان حينها في المحنة بسبب الفتوى الحموية الكبرى، فتحدى جميع الأشاعرة، وقال: ائتوني بكلمة واحدة مما في عقيدتي تخالف ما كان عليه السلف، وأمهلهم مدة، ولكن ما استجاب أحد للتحدي.
أقول: إن أعظم مديح مدحت به العقيدة السلفية هو ما أتى في صورة الذم من بعض الفقهاء المعاصرين المشهورين، وهو الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى وعفا عنه؛ لأنه كان مخالفاً للعقيدة السلفية، بل انتصر لعقيدة المعتزلة في موضوع خلق القرآن ضد الإمام أحمد، عفا الله عنه وسامحه، لكن نقول: رام نفعاً فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا ففي كتابه عن تاريخ المذاهب الإسلامية، لما تكلم في تاريخ المذاهب السياسية والعقائدية، قال تحت عنوان السلفيين: (جاء هؤلاء السلفيون وأرادوا أن يعودوا بالعقيدة وفي فهم العقيدة إلى الكتاب والسنة ويتركوا كلام الفلاسفة وعلم الكلام، ويهجروا الأدلة العقلية، ويقتصروا في فهم العقيدة على الكتاب والسنة)، أقول: هذه أعظم عبارة قرأتها فيها مدح للعقيدة السلفية على يد من كان خصماً لها، سامحه الله وعفا عنه.
الشاهد: أن هذا الكلام هو أقصى ما يأخذونه علينا، بل هذا أقصى ما نأخذه عليهم: أنهم يضعون بجانب القرآن والسنة بفهم السلف كلام أخراق المعتزلة والفلاسفة وأهل الكلام.
ثم يقول ابن قدامة: لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت صوابهم ووجب اتباعهم هم الذين تأولوه، فإن ابن عباس والضحاك ومالكاً وسفيان وكثيراً من العلماء قالوا في قوله: (وهو معكم)، أي: علمه.
ثم قد ثبت في كتاب الله، والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف: أن الله تعالى في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها.
وقولنا: إن الله في السماء، بمعنى: فوق السماء، وقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:٢] أي: على ظهر الأرض، لا أن نسيح داخل الأرض ونخترقها، وقوله: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١]، أي: على ظهرها، وليس في داخل جذوع النخل، فـ (في) بمعنى: على وفوق، والسماء هنا المراد بها العلو.
يقول: جاءت هذه اللفظة -لفظة المعية- مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:٧]، فبدأت بالعلم وانتهت بالعلم مع المعية، إشارة إلى أن هذا العلم بالمعية.
ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، ويجازيهم عليه، وهذه القرائن كلها دالة على إرادة العلم.
فقد اتفقت فيها هذه القرائن ودلالة الأخبار على معناها، وما قاله السلف وتأويلهم، فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى.
ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يخرج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحداً الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى.
ثم يقول الله تعالى: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))، يعني: سيجازيكم عليه.