[وجوب الستر ومعاملة الناس على الظاهر]
يقول القاسمي: لكن لما كان من ثمرة سوء الظن التجسس فإن القلب لايقنع بالظن ويطلب التحقيق، فيشتغل بالتجسس، فلذلك ذكر سبحانه النهي عنه إثر سوء الظن، فقال تعالى: ((وَلا تَجَسَّسُوا))، أي: لا يتبع بعضكم بعضاً، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر من أسلم بلسانه ولما يدخل الإيمان في قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته).
فالله يحب الستر، وكل صور الستر يحبها الله سبحانه وتعالى، سواء ستر الإنسان على نفسه فلا يتحدث بما ألم به من القبائح، أو ستره على غيره، بل يستر على نفسه وإلا عوقب، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون).
وكذلك ستره على إخوانه: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وغير ذلك من أنواع الستر، ومن أسماء الله سبحانه وتعالى (الستير)، وليس (الستار) كما هو شائع عند الناس، حتى إنهم يسمون الولد عبد الستار، والمأثور في الأسماء الحسنى (الستير).
ومن طرائف الإمام المجدد الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله رحمة واسعة: أنه صدمه رجل بسيارة فوقع الشيخ على الأرض مجروحاً، فاجتمع عليه الناس، وهم يدعون ويقولون: يا ساتر! يا رب! يا ساتر! فالشيخ كان في شدة الألم وهو يقول لهم: لا تقولوا: يا ساتر، وقولوا: يا ستير! فهو يصحح لهم العبارة والخطأ وهو في هذه الحالة.
ومعاملة الإنسان بما يخفيه من خصائص الرب سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يعلم على التحقيق ما في قلوبهم، وهذه من آفات جماعات التكفير؛ خاصة جماعة التوقف والتبين، وهذا فيه هذه المنازعة لصفة من صفات الله تعالى وهي الربوبية، وينبغي أن يتذكر الناس كلمة المسيح عليه السلام التي رواها أنس بن مالك كما في الموطأ: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد).
فخصلة الربوبية: هي إرادة أن يتعامل مع الناس على ما في قلوبهم، فيريد أن يمتحنه ويتلصص على ما في قلبه كي يعلله به، فنقول: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد قبل من المنافقين ظاهرهم فكانوا يصلون معه ويصومون، ويتناكحون مع المسلمين، ويتوارثون، ويدفنون في مقابر المسلمين؛ كل هذا إجراء للأحكام الظاهرة.
فينبغي أن يعامل الناس على ظاهرهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، أما محاولة التتبع والتنقيب والتفتيش عما في قلوب الناس فهذا مما لا يكلف الإنسان به، حتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك لما استأذن خالد بن الوليد رضي الله عنه في قتل رجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه لعله أن يكون يصلي، قال: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ قال: إني لم أومر أن أفتش في قلوب الناس، ولا أن أنقب في قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فلم يكلف النبي نفسه وهو خير من وطئ الحصى صلى الله عليه وسلم أن يعامل الناس على ما في أنفسهم وسرائرهم، فينبغي أن نقبل الظاهر ولا نتجسس لنطلع على ما يستره أي إنسان من عيوبه، ولا يجوز أن يتتبع المرء عورة أخيه؛ لكن يقنع بما ظهر له من أمره، وعلى أساس هذا الظاهر يحكم على الإنسان حمداً أو ذماً لا على ما يعلم من سريرته.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا عيرك رجل بما لا يعلمه فيك فلا تعيره بما تعلمه فيه)، بمعنى: أنه لا يحصل هنا مقابلة الإساءة بالمثل، إذا كان فيها كشف أستار، فإذا عيرك بما لا يعلمه فيك فلا يجوز لك أن تعيره أنت بما تعلمه فيه؛ لأن هذا من الظلم والعدوان.