للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون)]

قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور:٣٢] أي: هل هذا التناقض في كلامهم أمرتهم به أحلامهم وعقولهم أم هم قوم طاغون؟ ونلاحظ هنا: نسبة الأحلام -أي: العقول- إلى هؤلاء الكفار، وقد ورد في بعض الآثار -ومنها أحاديث مرفوعة، لكنها لا تصح- أن الكافر لا يوصف بالعقل، فلا يقال للكافر: عاقل، فهل معنى ذلك أن الكافر مجنون؟

الجواب

لا، بل الكافر ميزه الله بالعقل؛ لأن كل إنسان عاقل مميز عن البهائم والجمادات بالعقل والحياة، فالكافر أعطي العقل، لكنه استعمل العقل في غير ما خلق من أجله، استعمله في محاربة الله، وفي الصد عن سبيل الله، وفي الكيد للمسلمين، ونحو ذلك، أو في خدمة الدنيا كما يفعل الكفار الذين يتقلبون في البلاد، ويسخرون عقولهم في كل شيء إلا الشيء الذي خلقوا من أجله! فالعقول يستعملونها في كل ضرب ونوع من أنواع خدمة الدنيا والتبتل في عبادتها وعبادة الشهوات، وهم لهم أحلام ولهم عقول، بدليل قوله تعالى هنا: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا))، لكنهم لما لم يستعملوها فيما خلقت من أجله، صح نفيها عنهم، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا يعقلون، ووصفهم بأنهم لا يسمعون، ويوضح هذا قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ} [الأعراف:١٧٩] يعني: عقول، {لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:١٧٩]، فصح نفي العقل عنهم؛ لأنهم وإن أوتوا عقولاً، لكنهم عطلوها عن الوظيفة التي خلقت من أجلها، وهي التدبر في آيات الله وفي الآفاق وفي أنفسهم حتى يصلوا إلى توحيد الله تبارك وتعالى، سواء في ذلك الآيات الكونية أو الآيات التنزيلية.

قيل لـ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟! يعني: في مثل هذه الآية: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا) فقال: تلك عقول كادها الله يعني: لم يصحبها التوفيق، فخذلت، فالله سبحانه وتعالى وهبهم العقول، لكنه حرمهم نعمة التوفيق، وهي إرادة الحق وحب الحق والانقياد له في القلب.

فالإنسان يرى الحق واضحاً ويعلم تماماً أنه حق من عند الله، لكن لا يوفقه الله للانقياد لهذا الحق، والتوفيق لا يكون إلا من عند الله عز وجل، كما قال عز وجل: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:٨٨].

فانظر إلى تعبير عمرو بن العاص رضي الله عنه، وعمرو بن العاص من أعقل عقلاء العرب، فيقول هذا الكلام الرائع؛ فإنه لما قيل له: ما بال قومك لم يؤمنوا، وقد وصفهم الله بالعقل؟ رد قائلاً: تلك عقول كادها الله.

يعني: لم يوفقها، فإذا وكل الإنسان إلى عقله وإلى نفسه، فأول ما يجني عليه هو هذا العقل إذا حرم من توفيق الله؛ ولذلك كان من دعاء الصديق اللهم أرني الحق حقاً، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً، وارزقني اجتنابه.

فالخطوة الأولى: أن يرى الإنسان الشيء على حقيقته؛ لأن أكثر الناس يرون الحق باطلاً، ومنهم من يرى اتباع السنة تطرفاً، ومنهم من يرى التزام شرائع الإسلام تعصباً ورجعية وهمجية وهوس وأصولية وتطرف إلى آخر هذه الشتائم، هكذا زين لهم سوء أعمالهم! فرأوا الحق باطلاً، فحرموا من البداية من منبع التوفيق.

فحتى هذه المرحلة حرموا منها، ولم يوفقهم الله سبحانه وتعالى لأن يروا الحق حقاً، وإنما رأوا الحق تطرفاً وتعصباً ورجعيةً وتخلفاً وأصولية وإرهاباً إلى آخره.

وممكن أن الإنسان يرى الحق حقاً، لكن يستكبر عن أن يتبع هذا الحق، كحال اليهود الذين عرفوا النبي عليه الصلاة والسلام وعرفوا القرآن كما يعرفون أبناءهم.

وهل يضل الرجل عن ابنه؟!

الجواب

لا يضل أبداً، فكذلك كانوا يعرفون أن القرآن حق، وأن الرسول مرسل من عند الله، ومع ذلك كفروا جحوداً وحسداً واستكباراً! فليس معنى أن الإنسان يعرف الحق يصير مؤمناً، بل لابد أن ينقاد لهذا الحق، كما هو معروف في الشروط السبعة لشهادة (لا إله إلا الله).

فالعقل الذي يضل عن توفيق الله لا يأخذ صاحبه إلا إلى الضياع والدمار.

فقوله: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا)) يعني: بهذا التناقض، وهل يقوله عاقل؟ أو هل يأمر به عقل؟ وقوله: ((أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) (أم) هنا بمعنى بل، والمعنى: بل هم قوم طاغون، أي: مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق.