للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

معنى قوله: (قوماً غضب الله عليهم)

قوله: ((غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: يرى المفسرون أن هذه الآية في ختام هذه السورة كالآية الأولى في أولها، وهذا ما يسمى عوداً على بدأ.

قال أبو حيان: لما افتتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ختمها بمثل ذلك؛ تأكيداً لترك موالاتهم، وتنفيراً للمسلمين عن توليهم، وإلقاء المودة إليهم.

وقال ابن كثير: ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها.

قال الشيخ عطية سالم: يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنها لم تكن لمجرد التأكيد للنهي المتقدم، ولكنها تتضمن معنى جليلاً وذلك للآتي: أولاً: أنها نص في قوم غضب الله عليهم، وعلى أنها للتأكيد حملها البعض على العموم؛ لأن كل كافر مغضوب عليه، وحملها البعض على خصوص اليهود؛ لأنه صار وصفاً لهم، وهو قول الحسن وابن زيد، قاله أبو حيان.

ومما تقدم للشيخ الشنقيطي في مقدمة (الأضواء): أنه إذا اختلف في تفسير آية وكان أكثر استعمال القرآن لأحد المعنيين فإنه يكون مرجحاً له على الآخر، وهو محقق هنا كما قال الحسن؛ لأن صفة الغضب أصحبت عرفاً على اليهود، فإذا قلنا: أمة الغضب، انصرف الذهن مباشرة إلى اليهود لعنهم الله، فهذا الوصف أصبح من جهة العرف وصفاً لليهود، وقد خصهم الله تعالى بهذا الوصف في عدة آيات مثل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:٦٠] وقال تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:٩٠]، وقد فرق الله بينهم وبين النصارى في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧]، وصحت الأحاديث بأن المقصود بالضالين: النصارى، وغير المغضوب عليهم: اليهود.

ولو قيل: إنها في اليهود وفي المنافقين لما كان بعيداً؛ لأنه تعالى نص على غضبه على المنافقين في سورة المجادلة في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:١٤] وعلى هذا فهي تشمل اليهود والمنافقين.

والغرض من تخصيصها بهما، وعودة ذكرهما بعد العموم المتقدم في: (عدوي وعدوكم) هو -والله تعالى أعلم- أنه لما نهى أولاً عن موالاة الأعداء، وأمر بتقطيع الأواصر بين ذوي الأرحام، جاء بعدها ما يشيع الأمل فقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:٧]، و ((عَادَيْتُمْ)) عامة باقية على عمومها، ولكن اليهود والمنافقين لم يدخلوا في مدلول (عسى).

يعني: لأن احتمال إسلام اليهود نادر جداً، فيكاد أن ينقطع الأمل في إسلامهم، لذلك لو عملت إحصائية في عدد اليهود الذين دخلوا في الإسلام فستجد ذلك نادراً جداً، ولا ننكر وجود ذلك فإن الله على كل شيء قدير، فيصطفي من يشاء من عباده، لكنه نادر، بخلاف النصارى وغيرهم فإن أعداداً ضخمة منهم تدخل في الإسلام.

يقول: ولكن اليهود والمنافقين لم يدخلوا في مدلول (عسى) هنا، فنبه تعالى عليهم بخصوصهم في هذه الآية؛ لئلا يطمع المؤمنون أن ينتظروا شيئاً من ذلك، فأيأسهم من موالاتهم ومودتهم، العدم الإيمان الذي هو رابطة الرجاء المتقدم في (عسى) أي: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:٧] بأن يدخلوا في الإسلام بعد أن قاطعتموهم لوجه الله وصدقتم في ذلك، فالله قادر على أن يكافئكم بأن يهديهم للإسلام فتنقلب المعاداة إلى مودة.

فكان الأمر كما أخبر الله سبحانه وتعالى، فقد جعل المودة من بعض المشركين، وذلك أن كثيراً منهم آمن بعد ذلك، ولم يجعلها من المنافقين ولا اليهود، فهي إذاً مؤسسة لمعنى جديد، وليست مؤكدة لما تقدم، والعلم عند الله تعالى.

فهذا فيما يتعلق باختيار الشيخ عطية سالم في تفسير هذه الآية.