للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض)

قال الله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:٣٠ - ٣١].

قوله تعالى: (فطوعت له نفسه قتل أخيه) أي: رخصت وهونت له نفسه.

وجاء التصريح هنا بالأخوة في قوله: (قتل أخيه) فلم يقل سبحانه وتعالى: فطوعت له نفسه قتله.

وإنما صرح بالأخوة لكمال تقبيح ما سولت له به نفسه من قتل أخيه، أي: الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه، فبدل أن يحمي أخاه إذا به هو نفسه يقتله.

وقوله تعالى: (فقتله فأصبح من الخاسرين) أي: ديناً؛ إذ صار كافراً حاملاً الدماء إلى يوم القيامة، وأصبح من الخاسرين دنيا؛ إذ صار مطروداً مبغضاً في الخلائق.

وقد أخرج الجماعة غير أبي داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل).

فـ قابيل هو أول من سن القتل في ذرية آدم عليه السلام، فلذلك كل من اقتدى به من بعده وقتل مظلوماً أو قتل بغير حق فإنه يشاركه في الوزر؛ لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).

فكذلك لما كان هو أول من سن سنة القتل وإراقة دم المسلم بغير حق كان في كل نفس تقتل من بني آدم إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى نصيب من وزر القتل عائداً إلى قابيل؛ لأنه هو أول من سن هذه السنة.

ولما قتل قابيل أخاه لم يدر ما يصنع به من إفراط حيرته، وهذه كانت أول حادثة تقع في تاريخ البشرية يحصل فيها هذا القتل وهذه الجريمة، فلم يدر ماذا يصنع بعدما قتل أخاه ورآه مضرجاً بدمه وجثة ملقاة أمامه، فاحتار، قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة:٣١].

قوله: (فبعث الله) أي: أرسل الله (غراباً)، فجاء يبحث في الأرض، ومعنى (يبحث): يحفر بمنقاره ورجله متعمقاً في الأرض، وهذا من شأن الغراب؛ لأن الغراب دائماً يحفر في الأرض.

قال القتيبي: هذا من الاختصاص، ومعناه: بعث غراباً يبحث التراب على غراب ميت.

يعني: هذا هو الاحتمال، وهو أن هذا الغراب كان له غراب آخر ميتاً فكان يحفر له في الأرض كي يدفنه، فهو رأى هذا المشهد.

وكذا رواه السدي عن بعض الصحابة أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له ثم حثا عليه حثياً.

وقوله: (ليريه) الضمير المستتر إما عائد على الله تعالى أو على الغراب، أي: إما أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى بعث الغراب ليري قابيل كيف يصنع بأخيه، أو ليري الغراب قابيل ما يصنع بالمقتول.

وقوله: (كيف يواري) أي: يستر في التراب (سوأة أخيه) أي: جسده الميت، وسمي سوأة لأنه مما يسوء ناظره، فالإنسان يسوءه أن يرى أخاه ميتاً.

قال تعالى: (قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) قوله: (يا ويلتا) كلمة جزع وهلع، والألف فيها بدل ياء المتكلم؛ إذ الأصل فيها (يا ويلتي) فأبدلت الياء -ياء المتكلم- ألفاً.

والويل والويلة: الهلكة.

(أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) أي: أضعفت عن الحيلة في أن أكون مثل هذا الغراب الذي هو من أضعف الحيوانات؟! والاستفهام هنا للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب، فهو يستفهم متعجباً كيف أنه هو الإنسان ويعجز عن أن يكون مثل الطائر الضعيف الذي استطاع أن يتصرف في جثمان أخيه بهذه الصورة، في حين هو لم يهتد إلى ذلك وبقي متحيراً إلى أن جاء الغراب! وقوله: (فأواري سوأة أخي) أي: أغطي.

وقوله: (فأصبح من النادمين) أصبح هنا بمعنى: (صار من النادمين) أي: على حيرته في مواراته، حيث لم يدفنه حين قتله، فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضل منها وأدنى في التنوير، ولم يكن نادماً على قتله، ففي هذه اللحظة هو لم يكن نادماً على قتل أخيه، وإنما أصبح من النادمين لعدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب.

وقال أبو الليث عن ابن عباس: لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه؛ لأن الندم توبة، فالظاهر أن الله سبحانه وتعالى لم يعف عنه؛ لأنه لم يتب مما فعل بأخيه، فيلزم أن يفسر قوله تعالى: (فأصبح من النادمين) يعني: على حيرته حيث لم يهتد إلى ما اهتدى إليه الغراب الأعجم، فكان أخس وأقل من الغراب الأعجم، ولو كان نادماً على قتل أخيه لكانت الندامة توبة، لكنه لم يتب.

وظاهر الآيات أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب، ولا مانع من ذلك؛ إذ مثله مما يجوز خفاؤه على الإنسان، لاسيما والعالم في أول طور النشأة، وكان هابيل أول قتيل من بني آدم، فيكون أول ميت، فيحتمل أنه لم يكن يعرف ما ويصنع بالميت إذا مات أو بالقتيل إذا قتل.

ونقل الرازي احتمال أن يكون عالماً بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه، فواراه تحت الأرض، والله تعالى أعلم.