فإن قيل: قد وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل: إنما كُره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله سبحانه وتعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}[البقرة:١٧٧]، فكانوا يصبرون على الفقر ولا يلجئون إلى سؤال الناس، وكانوا لا يتسخطون في الصبر على الفقر، وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر، ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار، فالذي لا يضمن نفسه ويخشى ألا يصبر، أو أنه سيتعرض لسؤال الناس فإنه يترك في جيبه ما يغنيه عن ذلك، لكن إن كان على ثقة من أنه سيصبر، ففي هذه الحالة له أن يتصدق بما فضل عن النفقة الواجبة عليه، فلا يتصدق بكل ماله ويترك أولاده مثلاً جوعى وعراة ولا ينفق عليهم، ثم يضطر للسؤال بعد ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}[البقرة:٢١٩]، والعفو: هو ما فضل وما زاد عن النفقة الواجبة.
وروي:(أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب، فقال: هذه صدقة، فرماه بها وقال: يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس؟)، والله تعالى أعلم.