[تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي)]
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:٢٨].
((قال يا قوم)) أي: قال نوح: يا قوم ((أرأيتم)) أرأيت: اسم فعل أمر بمعنى أخبرني، أي: أخبروني.
((إن كنت على بينة من ربي)) إن كنت على برهان.
((وآتاني رحمة)) أي: منَّ الله سبحانه وتعالى عليَّ بأمر اختصني به، وهو أن ((آتاني)) منه ((رحمة)) أي: هداية خاصة كشفية تكشف لي الحقائق.
((من عنده)) أي: أن هذه الرحمة من عند الله فوق طور العقل، بل هي من العلوم اللدنية ومقام النبوة، قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلمًا} [الكهف:٦٥] أي: علمناه من عندنا علماً وهو مقام النبوة؛ لأن النبوة لا تكتسب، بل هي هبة من الله لا يستطيع الإنسان أن يجتهد في العبادة والذكر حتى يصل إليها، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨] فيصطفي الأنبياء ويختصهم دون من عاداهم بخاصية مقام النبوة وعلم النبوة.
((فعميت عليكم)) أي: لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن، وبالخلقة عن الحقيقة.
((أنلزمكموها وأنتم لها كارهون)) أي: أنكرهكم على قبولها ونقصركم على الاقتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، مع أنه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:٢٥٦]؟ فالاستفهام هنا للإنكار أي: لا نقدر على أن نكرهكم على الإيمان، والذي في وسعنا هو دعوتكم إلى الله سبحانه وتعالى، لا أن نضطركم إليها، فإن شئتم تلقيها فزكوا أنفسكم واتركوا إنكاركم.
وفي طي جوابه عليه السلام حث على تدبرها ورد عن الإعراض عنها بأسلوب فائق في غاية الجدارة؛ لأن هذا الأسلوب الذي يتكلم به نوح عليه السلام فيه نوع من الاستفزاز الباطني؛ لأنه يصف ما آتاه الله سبحانه وتعالى بكونه بينة من ربه، تزكية للمنهج الذي هو عليه، فهو واثق من منهجه وعنده البرهان على صحته.
إذاً مع أنكم محجوبون عن تدبرها فلا نملك أن نقصركم على اتباع الحق، في هذا الذي يدعوهم إليه نوح عليه السلام إرشاد لهم إلى أن يزكوا أنفسهم، وأن يتخلوا عن المكابرة والإنكار والجحود والعناد، لينقادوا إلى هذا الحق.
وقريب من هذا أن بعض الناس كتب بعض الأوراق لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، يريد أن يضع شعاراً ليستفز غير المسلم لكي يبدأ في تدبر آيات الله سبحانه وتعالى ويعمل العقل، فكتب بالإنجليزية ما ترجمته: نحن بهذا الجهد فقط نبذر بذرة الهداية، ولعل الله سبحانه وتعالى القدير يجعلها تترعرع في قلب من يستحقها.
فهذا الأسلوب فيه نوع من الاستفزاز للمرء كي يعمل عقله في الوصول إلى هذا الحق.