[كلام ابن القيم على الأمثال المضروبة في سورة التحريم]
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: اشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكفار، ومثلين للمؤمنين.
تضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو وصلة صهر أو سبب من أسباب الاتصال، فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلاً بالله وحده على أيدي رسله، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما، فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين، قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله وخالف أمره ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي، ولو كان بينهما في الدنيا أشد اتصال، فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية، ولم يغن نوح عن ابنه ولا إبراهيم عن أبيه، ولا نوح ولوط عن امرأتيهما من الله شيئاً.
قال تعالى: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:٣].
وقال تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار:١٩].
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة:٤٨].
وقال عز وجل: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان:٣٣].
وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة؛ أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة، أو يجيرهم من عذاب الله، أو يشفع لهم عند الله، وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم، وهو الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم.
وأما المثلان اللذان للمؤمنين فأحدهما: امرأة فرعون، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئاً إذا فارقه في كفره وعمله، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئاً في الآخرة، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله فتأتي عامة: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:٢٥]، وفي الحديث: (يهلكون جميعاً، ثم يبعثون على نياتهم).
ثم يقول: فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين.
أما المثل الثاني للمؤمنين: مريم التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر.
فذكر ثلاثة أصناف للنساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر، والمرأة التي لا وصلة بينها وبين أحد: فالأولى: لا تنفعها وصلتها وسببها.
والثانية: لا تضرها وصلتها وسببها.
والثالثة: لا يضرها عدم الوصلة شيئاً.
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة؛ فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والتحذير من تظاهرهن عليه، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما؛ ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثال اتصال النكاح دون القرابة.
قال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة.
وفي ضرب المثل للمؤمنين بـ مريم اعتبار آخر: وهو أنها لم يضرها عند الله شيئاً قذف أعداء الله اليهود لها، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأها الله منه، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين، وفي هذا تسلية لـ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك، وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها.
كما أن في التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذيراً لها ولـ حفصة مما تعمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد، والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليها، وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه، ولاسيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.