للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله تعالى: (ولله جنود السماوات والأرض)]

قوله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:٤] يقول شيخ المفسرين رحمه الله: يقول تعالى ذكره: ((وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه.

وجنود السماوات والأرض موضوع مستقل لوحده، ولا نريد أن نخرج مع كل كلمة عن سياق التفسير، ولكن جنود الله عز وجل كثيرة في السماوات والأرض، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:٣١] وهي لا تعد ولا تحصى، ولا ينبغي أن نحصر جنود الله فقط في الملائكة، فالملائكة أحد جنود الله عز وجل، فبجانب الملائكة المؤمنون من البشر كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧٣] فجنود الله تتنوع مثل الرياح الأمطار الأمواج كل هذه الأشياء هي جنود من جند الله عز وجل، تستجيب لأمره، وينزل الله بها بأسه على من يشاء، أو ينصر ويؤيد بها من يشاء، ويرزق بها من يشاء، كلها جنود مسخرة لأمر الله.

ومن أعاجيب جنود الله سبحانه وتعالى ما نسمع عنه في هذا الزمان من الأمراض التي تنشأ بسبب الفيروسات، وهي أدق بكثير جداً جداً من البكتيريا التي يمكن أن ترى بالميكروسكوب، لكن الفيروس لا يرى إلا بالميكروسكوبات الألكترونية، التي تكبره ملايين المرات حتى يمكن رؤيته! وهذا عالم بحد ذاته مستقل، وله أخباره العجيبة، فهذه إشارة عابرة نستدل بها على أن جنود الله سبحانه وتعالى كثيرون جداً، يعملون بأمر الله سبحانه وتعالى وينفذونه.

يقول: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي: أن الله تعالى لم يزل عالماً بما هو كائن قبل كونه، وما خلقه عاملوه، حكيماً في تدبيره.

وقال ابن عباس: ((وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس.

وقال الشوكاني: يعني: الملائكة والإنس والجن والشياطين، يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض، ويحوك بعضهم ببعض، ((وكان الله عليماً)) كثير العلم ((حكيماً)) في أفعله وأقواله.

وقال القاسمي: أي: أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه.

وقال ابن كثير: ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، يعني: هذه إشارة إلى نفس الحكمة التي سبق الكلام عنها في سورة القتال في قوله تبارك وتعالى {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:٤] يعني: لابد أن نستخضر هذا الأمر: ((وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ)) يعني: هذا الذي يعادي الله ورسوله، ويحارب دين الله من كفار والمنافقين وغيرهم، وهذا الذي يشكوه المؤمنون من الضعف والاستضعاف والإذلال وغير ذلك من هذا العناء، ينبغي أن نستحضر دائماً أن الله سبحانه وتعالى قادر على إزالته، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، فالله سبحانه وتعالى قادر على أنه بكلمة مكونة من حرفين (كن) يصبح جميع من على الأرض على أتقى قلب رجل واحد منهم، وهو قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أليس الله بقادر على ذلك؟ بلى، لو أن الله قال لجميع البشر: كونوا مثل محمد عليه السلام لكانوا، أو لو قال لجميع البشر: كونوا مثل إبليس لعنه الله على أفجر قلب رجل واحد منهم؛ لحصل ذلك، ولا يضر الله شيئاً، لكن هذا ينافي حكمة الخلق والابتلاء، فالناس الذين يقهرون المسلمين ويحاربون دين الله سبحانه وتعالى لو نزل ملك واحد ينفخ فيهم على شكل صيحة -كما صاح جبريل على قوم لوط- لأبادهم جميعاً من صيحة واحدة، فالله تعالى قادر على ذلك، لكن الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل؛ لأن هناك أجلاً قد كتبه الله، ولأن الإيمان هنا في هذه الحالة سيكون إيماناً اضطرارياً بالإكراه، ولا إكراه في الدين، فالعبرة بالخضوع والانقياد الناتج عن تفكر وتدبر وإيمان كسبي، أما الاضطرار للإيمان فهذا معناه أنك تتبع ديناً مكرهاً كيوم القيامة؛ بدليل أن جميع الناس يوم القيامة يؤمنون، وجميعهم يكونون على يقين، لكنه يقين غير مكتسب، بسبب أنهم بعثوا ورأوا آيات الله سبحانه وتعالى، قال الله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:١٢] لكنه يقين لا ينفع؛ لأن العبرة باليقين في الدنيا حتى يكون هناك إيمان بالغيب: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:٣]، أما أن يصير الغيب عياناً، فنرى الملائكة تنزل على الذين يحاربون الدين، فتقصم ظهورهم، أو تمزقهم إرباً، وكل هذا الله قادر عليه، لكنه ينافي حكمة خلق الدنيا للابتلاء؛ لأنه هذا لو حصل فسينتهي التكليف؛ لأن الناس إذا رأوا هذه الخوارق عياناً فكلهم سوف يؤمنون، وتنتهي الحكمة من خلق الدنيا، فإذاً لابد أن نستحضر هذا قال تعالى: ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)) [محمد:٤] حتى يستمر الابتلاء والامتحان، كذلك أشار تعالى هنا بعدما قال: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}، وبعد قوله: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) يعني: أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لانتصر من الكافرين؛ لأن لله جنود السماوات والأرض، ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم، ولكنه شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال؛ لما في ذلك من الحكمة البالغة، والبراهين الدامغة، ولهذا قال: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)) مع أن له جنود السماوات والأرض، وهو قادر على إهلاك جميع الكافرين في لحظة واحدة، لكنه مع ذلك عليم حكيم لحكمة يعلمها، وهي استمرار الابتلاء في هذه الدار التي هي دار البلاء في الدنيا.