للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)]

قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:٣٥]، لما قرر سبحانه الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر، فقال: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)، والفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا عرفت ذلك، وقامت البراهين عليه، ولم ينجع في الكافرين؛ (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) أي: الزم الثبات والحزم فإنك منهم.

قال مجاهد: أولو العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين.

وقيل: نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى.

وقال ابن جريج منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس.

وقال الشعبي والكلبي: هم الذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة.

وقيل: هم الرسل المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثمانية عشر: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط، واختار هذا الحسين بن الفضل؛ لقوله بعد ذكرهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:٩٠].

وقيل: إن الرسل كلهم أولو عزم، وعلى هذا فتكون (من) في قوله تعالى: (فاصبر كما صبر ألوا العزم من الرسل) بيانية لا للتبعيض، أي: اصبر كما صبر الرسل الذين هم أولو العزم.

وقيل: هم اثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل.

وقال الحسن: هم أربعة إبراهيم وموسى وداود وعيسى.

فأما إبراهيم فقيل له: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:١٣١]، ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه، فوجد صادقاً صابراً في جميع ما ابتلي به.

وأما موسى فعزمه حين قال له قومه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦١ - ٦٢].

وأما داود فأخطأ خطيئة فنبه عليها، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة وقعد تحت ظلها.

وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة، وقال: إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها.

فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اصبر، أي: كن صادقاً فيما ابتليت به، كما صدق إبراهيم، واثقاً بنصر مولاك مثل ثقة موسى، مهتماً بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهداً في الدنيا مثل زهد عيسى.

ثم قيل: هي منسوخة بآية السيف.

وقيل: إنها محكمة.

وذكر مقاتل: أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له.

يقول القاسمي: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)، أي: أولوا الثبات والجد منهم فإنك منهم.

والعزم في اللغة كالعزيمة، ما عقدت قلبك عليه من أمر، والعزم أيضاً القوة على الشيء والصبر عليه، فالمراد به هنا: المجتهدون المجدون أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم وقدره وقضاه عليهم.

ومطلق الجد والجهد والصبر موجود في جميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل وكثير من الأولياء، فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل، وأن (من) بيانية لا تبعيضية، فكل رسول من أولي العزم، فإن أريد به معنى مقصود ببعضهم فلابد من بيانه ليظهر وجه التخصيص، وقد اختلف في عددهم إلى أقوال: الأول: أنهم جميع الرسل.

والثاني: أنهم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى ومحمد.

والثالث: أنهم خمسة، بزيادة عيسى كما قيل: أولي العزم نوح والخليل المنجد وموسى وعيسى والنبي محمد عليهم الصلاة والسلام.

والرابع: أنهم ستة بزيادة هارون أو داود.

والخامس: أنهم سبعة بزيادة آدم.

والسادس: أنهم تسعة: بزيادة إسحاق ويعقوب ويوسف، وقد يزاد وينقص.

وتوجيه التخصيص: أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق، وذبه عن حريم التوحيد وحمى الشريعة، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية وأموره الخارجية، ومبارزة كل أهل عصره كما وقع لنوح، أو الملك الجبار في عصره وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية كـ نمرود إبراهيم، وجالوت داود، وفرعون موسى، ولكل موسى فرعون، ولكل محمد أبو جهل، وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة حسية، ونفس ربانية، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام؛ فمن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص، وهذا مما كشفت بركاتهم سره.

وقوله تعالى: ((وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)) أي: ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم، فإن ذلك نازل بهم لا محالة، وإن اشتدت عليك الأمور من جهتهم.