[شبهة النصارى في كون عيسى ابن الله والرد عليهم]
وفي هذه الآية رد على النصارى دعواهم أن عيسى عليه السلام ابن الله ومن روحه، تعالى عز وجل عن ذلك علواً كبيراً.
وبيان هذا الرد: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:١٧] فهذا يدل على أن الذي أرسل يمكن إرساله بنفسه، وهناك فرق عند أهل اللغة بين أن يرسل نفسه وما يرسل مع غيره كالرسالة والهدية، فيقال: أرسلت إليه بهدية، فتعدى بحرف الجر (إلى)، كما في قول بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:٣٥] فالهدية لا ترسل بنفسها، بل لابد أن تكون مع أحد، ومثله بعثت كأن تقول: بعثت البعير من مكانه، وبعثت مبعوثاً، وبعثت برسالة.
فأما هنا فقال تعالى: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا)) فدل على أن الروح لا يمكن أن يكون هو الله نفسه، بل أرسل شيئاً آخر.
وقال: ((فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) ولفظ الروح مؤنث، وشاهد ذلك من القرآن ما ورد في سورة الواقعة: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:٨٣] أي: بلغت الروح الحلقوم، فأنث الفعل (بلغت)، أما الضمير هنا فهو مذكر: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ))؛ لأنه عائد على جبريل عليه السلام، ولو أنه من روح الله على ما ذهب إليه النصارى لما كان هناك حاجة إلى هذا التمثل.
وأيضاً فإنه قال لها: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم:١٩] ورسول ربها هو جبريل عليه السلام وليس روحه تعالى.
وقال: {لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:١٩] ولم يقل: لأهب لك روحاً من الله.
وإنما اشتبه عليهم الأمر في قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:١٧١]، ونقول: (من) هنا ليست للتبعيض، وإنما هي لابتداء الخلق، وذلك مثل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:١٣] أي: ابتداء خلقها من الله سبحانه وتعالى.
كذلك يقول الله سبحانه وتعالى للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص:٧١] وهو آدم عليه السلام، ثم قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص:٧٢] يعني: نفخت فيه الروح التي بها الحياة، {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:٧٢].
فلو كان الروح جزءاً من الله لكان آدم أولى بالألوهية من عيسى عليه السلام؛ لأنه لم يذكر في حق آدم إرسال رسول له، في حين أنه ذكر في خلق عيسى أنه أرسل رسولاً: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا)).
ويقول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩]، كذلك مريم عليها السلام لما بشرتها به الملائكة: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٤٧] فكل من آدم وعيسى قال الله تعالى: له كن، فكان.
ثم يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} أي: بصحفه المنزلة من عنده.
قوله: {وَكُتُبِه} أي: الموحاة، والعطف هنا للتفسير، أو: الكلمات أعم من المكتوب، والمحفوظ من أوامره ووصاياه المتوارثة، والكتب خاصة بالمخطوط من الأسفار.
قوله: ((وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)) أي: من المواظبين على طاعة الله والخضوع لأحكامه، والتذكير هنا من باب تغليب الذكور على الإناث.