تفسير قوله تعالى:(إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً)
أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام إلى كيفية ابتداء الوحي إليه وتكريمه تعالى إياه؛ وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، وسار بأهله قاصداً بلاد مصر، بعدما طالت غيبته عنها ومعه زوجته، فأضل الطريق في صحراء سيناء، وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء، فبينما هو كذلك إذ:{آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}[القصص:٢٩] يعني: أحس من جانب الطور ناراً، كما خصه تعالى بقوله:{إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا}[طه:١٠]، أي: أبصرتها إبصاراً بيناً لا شبهة فيه، {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ}[طه:١٠]، أي: بشعلة مقتبسة تصطلون وتستدفئون بها، {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}[طه:١٠]، أي: أجد هادياً يدلني على الطريق، لأنه كان قد ضل الطريق.
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}[طه:١١ - ١٢]، (فلما أتاها) أي: النار، (نودي يا موسى)(إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى)، فيجب في مثل هذا الوادي رعاية الأدب بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه له، كما يراعى أدب القيام عند الملوك، (وطوى) اسم للوادي.
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ}[طه:١٣] أي: اصطفيتك للنبوة، {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}[طه:١٣] أي: استمع للذي يوحى، ثم بينه بقوله:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي}[طه:١٤] أي: خصني بالعبادة وحدي، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}[طه:١٤]، أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركتها دالة على ما في القلب واللسان، وأن تجعل الحركة صورة ظاهرة تعكس ما في القلب واللسان من الخشوع.
قال أبو السعود: خصت الصلاة بالذكر، وأفردت في الأمر بالعبادة؛ لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، وذلك قوله تعالى:((وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي))، أي: لتذكرني، فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار، أو (لذكري) خاصة لا تشوبه بذكر غيري، أو بإخلاص ذكري وابتغاء وجهي، لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر، أو لتكون ذاكراً لي غير ناس.
هذه أقوال في معنى قوله:((وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)).