للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[زهد السلف في الدنيا وتحذيرهم منها]

قال علي رضي الله تعالى عنه في وصف الدنيا: أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من صح فيها أمن، ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن ساعاها -يعني: سابقها- فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته، ومن نظر بها -أي: اعتبر- بصرته.

وقال وهب بن منبه: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.

وقال بعضهم: طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً.

ودخل أبو حازم على بشر بن مروان فقال: يا أبا حازم! ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: تنظر ما عندك فلا تضعه إلا في حقه، وما ليس عندك فلا تأخذه إلا بحقه، قال: ومن يطيق هذا يا أبا حازم؟ قال: فمن أجل ذلك ملئت جهنم من الجنة والناس أجمعين.

ودخل قوم منزل عابد فلم يجدوا شيئاً يقعدون عليه، فقال: لو كانت الدنيا دار مقام لاتخذنا لها أثاثاً.

وقيل لبعض الزهاد: ألا توصي؟ قال: بماذا أوصي؟! والله مالنا شيء، ولا لنا عند الله شيء، ولا لأحد عندنا شيء.

وقال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم: مالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم خربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.

ولما ثقل عبد الملك بن مروان رأى غسالاً يلوي بيده ثوباً فقال: وددت أني كنت غسالاً لا أعيش إلا بما أكتسبه يوماً بيوم، فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه ولا نتمنى نحن عنده ما هم فيه.

وحفر الربيع بن خثيم في داره قبراً فكان إذا وجد في قلبه قسوة جاء فاضطجع في القبر فمكث فيه ما شاء الله، ثم يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠]، ثم يرد على نفسه فيقول: قد أرجعتك فجدي.

وقال بعض السلف في يوم عيد وقد نظر إلى كثرة الناس وزينة لباسهم: هل ترون إلا خرقاً تبلى، أو لحماً يأكله الدود غداً.

وقال الحسن: إن الموت قد فضح الدنيا، فلم يدع لذي لب فيها فرحاً.

وعن الحسن أيضاً قال: يا ابن آدم! طأ الأرض بقدمك؛ فإنها عن قليل قبرك، وإنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك.

لكن ينبغي أن نعرف أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى زمانها، أي: أنه ذم للدنيا لا ذم لليل والنهار المتعاقبين إلى يوم القيامة، فإن الله سبحانه وتعالى جعلهما خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكوراً.

وكذلك ليس ذم الدنيا راجعاً إلى أجزائها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن؛ لأن هذه من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده، لما فيها من المنافع، والاعتبار، والاستدلال على وحدانية الصانع عز وجل، وإنما يقع ذم الدنيا على أفعال بني آدم في الدنيا؛ لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته، كما قال سبحانه وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:٢٠].

وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر).

إذاً: فهذا هو رأس مال الإنسان: الوقت، والزمن، والعمر، فلا يذم الدهر أو الزمن لذاته، وإنما يذم لأنه يشغل عن طلب الآخرة، فيمكن أن يستعمل في الخير، وأن يستعمل في الشر.

إذاً: فينبغي أن نعرف ما هو الشيء الذي يتوجه إليه الذم.

وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع غرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه.

وقال يحيى بن معاذ: كيف لا أحب دنيا قدر لي فيها قوت، أكتسب بها حياة، وأدرك بها طاعة، وأنال بها الجنة؟! يعني: هل يمكن أن يصل أحد إلى الجنة إلا بالعمل الصالح في الدنيا، وإذاً: فالدنيا مزرعة لا تذم لذاتها وإنما تذم فيها أعمال بني آدم.

وسئل أبو صفوان الرعيني: ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن والتي ينبغي للعاقل أن يتجنبها؟ فقال: كل ما أصبت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد الآخرة فليس منها.

أي: ليس من الدنيا المذمومة.

وقال الحسن: نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن، وذلك أنه عمل قليلاً وأخذ زاده منها إلى الجنة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنه ضيع لياليه وكان زاده منها إلى النار.

وقد قص الله سبحانه وتعالى لنا على لسان أهل العلم والإيمان في قصة قارون حينما نصحوه فقالوا له: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٧٧]، وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: (ولا تنس نصيبك من الدنيا).

فقيل: هو العمل الصالح الذي تخرج به من الدنيا، فهو الذي ينفعك، فنصيب الإنسان من الدنيا في الحقيقة هو عمره وعمله الصالح، كما قال بعض السلف: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً وهذه العبارة المنسوبة إلى الحسن البصري رحمه الله، فقوله: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، أي: أن يتهالك في خدمة الدنيا وكأنه سوف يعيش إلى الأبد فيستمتع بالدنيا، وليس الأمر كما يفهمه بعض الناس، فلو كان أمامك عملان أحدهما إن فاتك غداً تستدركه بعد غد، أو بعد شهر، أو بعد سنة، أو بعد عشر سنوات، أو بعد عشرين سنة، فهو عندك إلى الأبد ويمكن أن تعوضه، وفي نفس الوقت هناك عمل آخر إن فاتتك مادته فإنها تنتهي، فإنك تقدم العاجل، فأعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً فسوّف في الدنيا، وأما في الآخرة فبادر.

قوله: واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، يعني: قدم عمل الآخرة على عمل الدنيا، وهذا هو الوجه الأول في تفسير قوله تعالى: ((وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي: الذي ينفعك وهو العمل الصالح.

والقول الآخر: إن قوله: ((وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) نوع من الرفق مع الشخص الذي تدعوه؛ حتى تبين له أن الالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى، والدخول في الدين لن يحرمه من الدنيا التي يحبها ما دام في المباح والحلال، فكأنه يقول: لن تحرم من متاع الدنيا ومن الطيبات التي أحلها الله سبحانه وتعالى، فلا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال، وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك.

والتفسير الثالث: أن قوله: ((وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) وعظ مستقل، فلا تنس أن هذه الدنيا التي أنت غارق فيها أن الذي ستخرج به منها هو الكفن، كأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن، كما قال الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط وقال آخر: هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن يقول تبارك وتعالى: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) قال شيخ المفسرين رحمه الله تبارك وتعالى: يقول تعالى ذكره حاضاً عباده المؤمنين على جهاد أعدائه، والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به، قاتلوا أيها المؤمنون! أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعوكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو إلا ما كان منها لله من عمل في سبيله، وطلب رضاه، فأما ما عدا ذلك فإنما هو لعب ولهو يضمحل فيذهب، ويندرج فيمر، أو إثم يبقى على صاحبه عاره وخزيه.

قوله: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أي: وإن تعملوا في هذه الدنيا التي ما كان فيها مما هو لها فلعب ولهو، فتؤمنوا به، وتتقوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وهو الذي يبقى لكم منها، ولا يبطل بطول اللهو واللعب، ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ)) هذا هو جواب الشرط، (يؤتكم أجوركم) أي: فهذا ليس من اللهو واللعب، بل يترتب عليه الأجر والثواب، فيعوضكم منه ما هو خير لكم منه يوم فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم.

قوله: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) أي: لا يسألكم ربكم أموالكم، ولكنه يكلفكم توحيده، وخلع ما سواه من الأنداد، وإفراد الألوهية والطاعة له.