تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم وكان ذلك على الله يسيراً)
قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:٢٩ - ٣٠] (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم) المقصود: لا يأكل بعضكم أموال بعض.
(بينكم بالباطل) أي: بالحرام شرعاً، كالربا والغصب والقمار والرشوة والسرقة والخيانة وسائر الحيل، وما أكثر هذه الحيل الآن التي تؤكل فيها الأموال بالباطل، كل المكاسب المحرمة التي تأتي عن طريق الحرام، أو تأتي بأكل أموال الناس بالباطل فهذا كله داخل في هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)).
الربا من أكل أموال الناس بالباطل، الغصب، السرقة، القمار، الرشوة، وما أدراك ما الرشوة، والخيانة وأجر المغني والمطرب وحلوان الكهان وثمن البغي من المحرمات، كل هذه الأشياء تدخل في أكل الأموال بالباطل.
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}، (تجارةٌ) أو (تجارةً) يمكن أن تقرأ بالوجهين: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)) أو (إلا أن تكون تجارةٌ عن تراض منكم)، إذا قلنا: (إلا أن تكون تجارةٌ) فإعراب التجارة هنا نائب فاعل، وإذا قلنا: (إلا أن تكون تجارةً) فتجارة خبر تكون.
التجارة المقصود بها هنا: معاوضة مع بعض كالبيع، أو تكون الأموال أموال تجارة.
(عن تراض) يعني: هذه الأموال صادرة عن تراض منكم، فلكم في هذه الحالة أن تأكلوها.
(عن تراض منكم) يعني: هنا البيان بأن شرط الربح في التجارة التراضي، والتراضي إما أن يكون بعبارة صريحة، وإما بإشارة مفهومة، فالعبارة الصريحة هي الإيجاب، مثل قولك: بعتك كذا وكذا بسعر كذا، هذا هو الذي يشترط فيه الإيجاب والقبول، أو يكون لفظ من الإنسان أو شيء غير اللفظ يدل على التراضي، كالتعاطي.
من هذه الآية: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ))، أخذ الشافعي اعتبار الإيجاب والقبول لفظاً، يعني: الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، اعتماداً على هذه الآية ذهب إلى عدم جواز بيع المعاطاة، وبيع المعاطاة هو الذي يتم بدون التلفظ بعبارة الإيجاب والقبول، كما يحصل مع أي واحد -مثلاً- يبيع سلعة ويعلق سعرها بجانبها، فتقول له: هات اثنين كيلو فيقوم بوزنها، ثم تعطيه الفلوس دون أن تقول له: بع لي، ودون أن يقول هو: قبلت.
إلى آخر هذه العبارات.
فما حجة الإمام الشافعي فيما ذهب إليه؟ قال: قوله تعالى: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ))، يعني: إلا أن تكون الأموال تجارة صادرة عن تراض منكم.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: التراضي أمر قلبي، فلا بد من الدليل عليه، أي: لا بد من إقامة الدليل الظاهرة على ما في القلب؛ لأنك لا تستطيع النظر في قلب البائع أو المشتري، لذلك فلا بد من الدليل عليه، فجعل الشرع صيغة الإيجاب والقبول أمارة ودليلاً على وجود التراضي؛ لأن الناس يعجزون عن أن يطلع بعضهم على قلوب بعض ليطمئنوا إلى أنه قد حصل التراضي، فأقيمت عبارة الإيجاب والقبول مقام التراضي الذي محله القلب؛ لكن استدل من يبيح بيع المعاطاة بنفس الآية، قالوا: الآية تدل على جواز بيع المعاطاة؛ لأنها تقول: "عن تراض منكم" وكما أن الأقوال تدل على التراضي، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً على التراضي، فصح بيع المعاطاة مطلقاً، فيكون من الأيسر على الناس أن ما تعارفوا على أنه يعبر عن التراضي يصح به البيع؛ مثل قول بعضهم: توكل على الله، أو بعتك أو أدخل يده في جيبه وأخرج النقود، فهذا كله بدل على التراضي.
وقولهم إنه ورد في بعض النصوص كلمة بعت منك وبعتك، فنحن نقول: لا نختلف على أن البيع يصح بمثل عبارة: بعتك أو بعت منك، كما في هذه الروايات التي يحتج بها من اشترط الإيجاب والقبول؛ لكن النزاع في دعوى أن البيع لا يصح إلا بالإيجاب والقبول، ولم يرد في اشتراط ذلك شيء صريح؛ لأن الله تعالى قال: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ))، فدل ذلك على أن التراضي هو المناط، ولابد من الدلالة عليه إما بنص أو بإشارة أو بكتابة، أو يقول له: توكل على الله، أو أي عبارة يفهم منها الرضا، ففي هذه الحالة يقع البيع، بأي لفظ وقع وعلى أي صيغة كان، وبأي إشارة مفيدة، يعني: لا يشترط اللفظ، بل يقبل ما يقوم مقام اللفظ الصريح ما دام يدل على التراضي.