[تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون)]
ثم قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:١٣٩].
قوله: ((إن هؤلاء)) يعني: أن عبدة تلك التماثيل ((متبر ما هم فيه)) أي: مهلك ما هم فيه من الشرك، ((وباطل ما كانوا يعملون)) أي: من عبادة الأصنام، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى فإنه كفر محض.
قال الرازي: أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله تعالى؛ لأن العبادة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام، وهي خلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل، وخلق الأشياء المنتفع بها، والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب ألا تليق العبادة إلا به عز وجل.
وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:١٣٨]، والذي نفسي بيده! لتركبن سنن من كان قبلكم)، أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وغيرهم.
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي رحمه الله: انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البر والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها.
يعني أن ذلك يعتبر أنموذجاً أو صورة من صور ذوات الأنواط التي ينبغي أن تقطع؛ قطعاً لذريعة الإشراك بالله عز وجل.
وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتابه (البدع والحوادث): وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد.
يعني: دهنها بالخلوق وبالطيب، كما يحصل الآن تماماً في بعض المقامات والأضرحة وغير ذلك؛ حيث يعطرون حجارتها بالعطور، ويعظمون هذه الأشياء، ويتمسحون بها، ومنها ما يزعمون أنها آثار كف النبي عليه الصلاة والسلام أو قدمه، كما في مسجد البدوي في طنطا، فإنه يوجد ركن معين يوجد فيه أثر قدم مطبوعة يزعمون أنها قدم النبي عليه الصلاة والسلام، ولنفرض جدلاً أن هذا أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ماذا؟! هل يقتضي ذلك التعبد أو إرادة هذا الحجر من دون الله عز وجل والتمسح به وتخليقه وحث الناس على تعظيمه؟! وكذلك يقبلون المقصورات النحاسية أو الذهبية التي حول هذه القبور، وهذا كله ليس من دين الإسلام في شيء، بل هذا كله تشبه وإحياء لسنة بني إسرائيل مع هؤلاء القوم الذين قالوا لموسى: ((اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)).
يقول: وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه.
يعني: أنك تجد عامتهم يفعلون ذلك وأكثرهم ربما لا يصلون، ومتوقع أنهم لا يصلون؛ لأنه إذا كانت الصلاة ثاني أركان الإسلام فإن التوحيد أول أركان الإسلام، وهم لا يحسنون التوحيد، فإذا كانوا لم يصححوا عقيدتهم ولم يفهموا أصلاً معنى لا إله إلا الله، فهل أمثال هؤلاء يكونون مصلين؟! فكثيراً ما تجد هؤلاء لا يصلون، بل ربما يرتكبون أفحش الأشياء في هذه الموالد والاحتفالات، كتعاطي المخدرات، والاختلاط الفاحش بين الرجال والنساء! وتجد النساء يجلسن يتعاطين الشيشة في الخيام التي ينصبونها، وكل هذه الأشياء لا مناسبة ولا ربط لها بالدين؛ فما علاقة كل هذا بالإسلام وبالتوحيد وبالمساجد والعبادات؟! وإنما هؤلاء من أهل الفسق والفجور، وليسوا من أهل الذكر، بل هم من أهل الغفلة، ومجالسهم ليست ذكراً لله، ولكنها غفلة عن الله سبحانه وتعالى، وغفلة عن حقوق التوحيد.
يقول أبو شامة: فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر.
ثم شرح الإمام أبو شامة شجرة مخصوصة فقال: ما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث! وروى ابن وضاح في كتابه قال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة، ولهذا البحث تتمة مهمة في (إغاثة اللهفان) لـ ابن القيم فلتنظر.
والآن أيضاً ظهرت أشياء جديدة من نفس هذا الباب، كاتخاذ التمائم للوقاية من السحر ومن الحسد وغير ذلك من الشرور، لكن بصورة مزركشة أكثر، فبدل الكف الذي كانوا يصنعونها من قبل أصبحوا الآن يستعملون هذه الخرزات ذات اللون اللبني أو الأزرق، وهذه الحجارة أصبحت مشهورة تعلق في كل مكان، فتعلق في السيارات وفي العيادات وفي المنازل، وكأنها نوع من الزينة، وكثير منهم يقصدون بها دفع الشر، وحتى لو كتبوا عليها المعوذتين أو كتبوا القرآن إذا اتخذت لأجل دفع السوء فهذا نوع من اتخاذ التمائم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من تعلق تميمة فقد أشرك، أو: فلا أتم الله له).
وكذلك يعلقون آية الكرسي سواء في السلاسل على الصدور كالنساء مثلاً، أو غير ذلك مما يتخذ من أجل أن هذه القماشة التي كتب عليها ذلك هي التي ستحفظه، فإن أردت أن تعتصم بالله عز وجل فارق نفسك أو أولادك أو بيتك أو الشيء الذي تريد رقيته بالرقية الشرعية، فكثير من هؤلاء الناس أصلاً لا يصلون ولا يوحدون الله، فكيف يقال: إن هذه المعوذات سوف تحميهم؟! فإذا أردت أن تتعوذ بالله عز وجل فاقرأ أنت المعوذات، واقرأ القرآن، وعليك أن تدعو الله سبحانه وتعالى، وتتجه إلى الله عز وجل، لا إلى هذه الأحجار.