[تفسير قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)]
قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:١٥] نجد أن هناك قاسماً مشتركاً بين الفتنة والعداوة في الآيتين، والقاسم المشترك هم الأولاد، ففي الآية الأولى قال تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)) وهنا قال عز وجل في هذه الآية: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ))، فالأولاد قاسم مشترك يدل على أن هذه الفتنه من نوع خاص، حيث يخاف منها أكثر مما يخاف من غيرها.
قوله: ((فِتْنَةٌ)) أي: بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى، فلا تطيعوهم في معصية الله، وقد جاء في بعض الآثار: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: أكل عيالُه حسناته).
والعيال كلمة عربية فصيحة يدخل فيها كل من يعوله الإنسان، يدخل فيها الزوجة والأولاد وكل من يعولهم وينفق عليهم.
يقول بعض السلف: العيال سوس الطاعات.
يعني: كما أن السوس يأتي إلى لوح الخشب وينخر فيه حتى يضيع وينهار فكذلك الطاعات قد يفسدها الافتتان بالأولاد.
وقال القتيبي: في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)): أي: إغرام، يقال: فتن الرجل بالمرأة أي أغرم بها، وقيل: فتنه محنه، ومنه قول الشاعر: لقد فتن الناس في دينهم وخلا ابن عفان شراً طويلاً وقال ابن مسعود: لا يقولن أحدكم: اللهم اعصمني من الفتنة؛ فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.
أي: ما من إنسان إلا وهو مبتلى، كما قال عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:٢] وقال عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢]، وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:٣٥]، وقوله سبحانه: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:١٥ - ١٦] فالإنسان في هذه الحياة كلها مفتون ومبتلى.
وقال الحسن: في قوله تعالى: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)): أدخل (من) -وهي للتبعيض- لأن كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر (من) في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)) لأن الأولاد والمال لا يخلوان من الفتنة وانشغال القلب بهما.
وكيف نجمع بين قول ابن مسعود وبين الدعاء المأثور: (أعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)؟ ونقول: في هذه الحالة أنت لا تقصد بتعوذك من الفتن أصل الابتلاء؛ لأن الابتلاء لا ينفك عن الإنسان، ولا يصح أن تقول مثلاً: اللهم لا توردني على جهنم! هذا لا يليق، وليس من الأدب، وليس من فقه الدعاء أن تدعو بشيء قطع بأنه كائن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:٧١] لم يبق أحد من الخلق إلا ويرد على النار.
فكذلك إذا قصدت بالدعاء التعوذ من الفتنة التي بمعنى الابتلاء فهذا لن يقع، ولذلك لما جاء خباب بن الأرت يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقوا من أذى قريش صبرهم، قال خباب: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟) فالرسول صلى الله عليه وسلم عدل عن الدعاء بعدم البلاء إلى تعزيتهم وتسليتهم، بما جرى لمن قبلهم، وبين لهم أن هذه سنة ماضية لا تتخلف.
فإذا تعوذت من الفتنة عموماً فيكون تعوذك من الفتنة التي تضلك في دينك، أما الفتنة التي هي بمعنى الاختبار، فالحياة كلها اختبار، ولا يبقى أحد أبداً بدون فتنة اختبار وامتحان؛ لأن الإنسان مبتلى إما بنعمة وإما بنقمة أو مصيبة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً إذا ذُكِّر ذكر)، وكما قال الراهب للغلام: (إنك خير مني وإنك ستبتلى)، وكما قال ورقة بن نوفل للرسول عليه الصلاة والسلام: (هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيه جذعاً، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم؟! قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) فانظر إلى هذه القاعدة: (لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا أوذي)، فهذه سنة الله ماضية، ولذلك الشافعي لما قال له الرجل: أيهما خير للإنسان أن يمكن أو أن يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى.
فهذه سنة ماضية، يقول الله عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:٢ - ٣] إلى آخر الآيات، فالشاهد أنك إن تعوذت من الفتنة مطلقاً فيكون قصدك مضلات الفتن كما قال ابن مسعود وليس أصل الاختبار والابتلاء؛ لأنه لا يوجد أحد لا يبتلى ولا يختبر، حتى ولو كان مغموراً بنعم الله؛ لأن النعم كلها -مثل: العافية- فتنة واختبار وامتحان، هل يشكر أم يكفر.
قوله: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)).
روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما السلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال صدق الله عز وجل: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما، ثم أخذ في خطبته صلى الله عليه وسلم).
قوله: ((وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) أي: الجنة، فهي الغاية ولا أجر أعظم منها.
وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) ولا شك أن الرضا غاية الآمال، يقول بعض الشعراء: امتحن الله به خلقه فالنار والجنة في قبضته فهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته يقول القاسمي في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)): أي تفتتن بهما النفس، ويجري عليها البلاء بهما إذا أوثرا على محبة الحق.
يعني المنهي عنه ليس هو محبة الأموال والأولاد، وإنما الفتنة المحظورة هي التي تقود إلى طاعتهم في معصية الله، أو الانشغال بهم عن حقوق الله تبارك وتعالى.
قوله: ((وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) أي: لمن آثر طاعة الله ومحبته عليهما.
روى ابن جرير عن الضحاك قال: كان هناك أناس من قبائل العرب كان يسلم الرجل أو النفر من الحي، فيخرجون من عشائرهم ويدعون أزواجهم وأولادهم وآباءهم؛ عامدين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقوم عشائرهم وأزواجهم وأولادهم وآباؤهم فيناشدونهم الله ألا يفارقوهم ولا يؤثروا عليهم غيرهم، فمنهم من يرق ويرجع إليهم، ومنهم من يمضي حتى يلحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم.
عن مجاهد قال: يحمل الرجل ماله وولده على قطيعة الرحم أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه.