[تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك)]
ثم قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام:١٥٨].
قوله: (هل ينظرون)، يعني: قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الرسالة، فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات الله؟ قال البيضاوي: أهل مكة، وهم ما كانوا منتظرين لذلك، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين.
يعني أن هذا الشيء الذي سيقع يلحقهم تماماً كما يلحق الشخص الذي ينتظر الذي سيقع.
وقوله: (إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك)، يعني: للحكم والفصل والقضاء بين الخلق يوم القيامة، قال ابن كثير: وذلك كائن يوم القيامة.
وهذه الآية هي كما قال عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:٢١٠]، ومذهب السلف إمرار ذلك بلا كيف، أي: لا يتعرض الإنسان لتأويل قوله تعالى: (إلا أن يأتيهم الله)، أو قوله تعالى: (أو يأتي ربك)، ولا يقل: كيف الإتيان؟ ولا يقال: لله سبحانه وتعالى كيف.
لأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فنثبت الصفة على ما يليق بالله عز وجل، ولا نشبه الله بخلقه، وفي نفس الوقت لا نعطل الصفة ولا ننفيها، هذا هو مذهب السلف.
وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) قيل: ملائكة الموت لقبض أرواحهم.
والتفسير المعتمد هو أنه تأتيهم الملائكة يوم القيامة.
وقوله تعالى: (أو يأتي بعض آيات ربك) وهذا كائن قبل يوم القيامة، وهو من أمارات الساعة وأشراطها، كما روى البخاري في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها)، لكن هذا الإيمان لن ينفع، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) ورواه مسلم أيضاً، ولـ مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض).
وقوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) جملة: (لم تكن آمنت من قبل) صفة لـ (نفساً) وجملة (أو كسبت في إيمانها خيراً) عطف على (آمن)، والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء يؤمن الناس إذا رأوه؛ لأن هذه الآية حينئذٍ فيها إلجاء وفيها اضطرار إلى الإيمان؛ لأنهم إذا رأوا الشمس تطلع من المغرب علموا أن هذه الآية قاطعة على قدرة الله سبحانه وتعالى الذي أتى بها من المغرب، وحينما يعلمون أن القرآن أخبر بذلك وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك وأن الساعة تكون قد اقتربت من هذه العلامة، فحينئذ يؤمنون، لكن هذا الإيمان لا ينفع؛ لأن أوان التكليف قد انتهى، ففي هذا الوقت يتوقف وينقطع أوان التكليف عند حصول هذه الآية، فلن ينفع الإيمان حينئذٍ نفساً غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور هذه الآية، فالإيمان الذي ينفع الإنسان هو الذي يكون قبل أن تظهر هذه الآية، أما إذا ظهرت فلا ينفع ذلك الإيمان.
وكذلك إذا كان الشخص مؤمناً قبل مجيء هذه الآيات كطلوع الشمس من مغربها، ولكن مع إيمانه لم يكتسب في إيمانه خيراً، ولم يستكثر من الأعمال الصالحة، فإنَّه في هذا الوقت لا يستطيع أن يستزيد، بل يتوقف أوان التكليف في هذه الحالة، فهي تشمل كل الناس، تشمل المؤمنين وتشمل الكافرين، تشمل الكافر الذي يؤمن حين تأتي الآية، وتكون الآية في حقه مثل الغرغرة، فلا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان ناشئ عن اضطرار وعن إلجاء بظهور هذه الآية العظيمة، وكذلك النفس المؤمنة التي لم تكسب في إيمانها خيراً لا تستطيع بعد ظهور هذه الآية أن تزيد في عملها شيئاً.
يقول: والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء -وهي آية ملجئة مضطرة- ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآية، أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً، فتوبتها حينئذ لا تجزئ.
يعني أن المؤمن أو المسلم الذي هو فاسق ولم يكتسب خيراً بالتوبة قبل ظهورها إذا جاءت هذه الآية وأراد أن يكتسب الخير ويعمل أعمالاً صالحة أو يتوب لا ينفعه ذلك.
قال الطبري: معنى الآية: لا ينفع كافراً لم يكن آمن قبل الطلوع إيمان بعد الطلوع، ولا ينفع مؤمناً لم يكن عمل صالحاً قبل الطلوع عمل صالح بعد الطلوع؛ لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذٍ حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة، وذلك لا يفيد شيئاً، كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:٨٥] فإذا أتى عذاب الله لا تقبل التوبة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).
وبالجملة فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركاً إيمانه، ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة، وذلك لذهاب زمن التكليف.
قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك.
وكأنه يقول: إن هذه الحالة غير مذكورة هنا في الآية؛ لأن الآية سكتت عن الشخص الذي كان قبل نزول الآية مؤمناً يعمل صالحاً، فسكت عن كونه بعد طلوع الآية يتوقف -أيضاً- عمله ويتوقف التكليف في حقه، فـ الضحاك يذهب إلى أن هذه الحالة لا تستوي مع الحالتين السابقتين: حالة الكافر الذي يؤمن عند نزول الآية، فإنه لا ينفعه بعد ذلك أن يؤمن، أو المسلم الفاسق الذي لم يتب قبل نزول هذه الآية، فإنه لا تنفعه توبته عند طلوع الشمس من المغرب، وسكتت عن المؤمن الذي كان قبل الآية مؤمناً وكان يعمل الصالحات مستقيماً، فلذلك يقول الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك.
فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية فلا يقبل منه؛ لأنها حالة اضطرار، كما لو أرسل الله عذاباً على أمة فآمنوا وصدقوا، فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك؛ لمعاينتهم الأهوال والشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهي أنه إذا نزل عذاب الله لا يقبل التوبة من هؤلاء القوم؛ لأنهم رأوا من الآيات ما يجعلهم يوقنون ويؤمنون، لكن العبرة بالإيمان الاختياري، أما هذا فهو إيمان اضطراري، كإيمان الكفار يوم القيامة حين يقولون كما حكى الله عنهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:١٢].
وقال ابن كثير: إذا أنشأ الكافر يومئذ إيماناً لم يقبل منه، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك فإن كان مصلحاً في عمله فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحاً فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته، كما دلت عليه الأحاديث، وعليه يحمل قوله تعالى: (أو كسبت في إيمانها خيراً) أي: لا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن صاحبها عاملاً به قبل ذلك، أي: قبل مجيء الآية.
والأحاديث المشار إليها منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه)، وروى الترمذي عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (باب من قبل المغرب مسيرة عرضه -أو قال: يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة- خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه) أي: لا يغلق باب التوبة حتى تطلع الشمس من المغرب، ولـ أبي داود والنسائي من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، يعني نهاية التوبة في عمر الدنيا، لكن هناك توبة في حق كل واحد منا، وهي ما قبل الغرغرة، وحديث أبي داود والنسائي عن معاوية رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) قال ابن حجر: سنده جيد، والظاهر أن القاسمي يقصد ابن حجر العسقلاني، وإلا فبعض المصنفين -للأسف- أحياناً يعمل نوعاً من التدليس، فيقول: وصححه ابن حجر أو: وحسنه ابن حجر.
ويكون يقصد بذلك ابن حجر الهيتمي، بالتاء المثناة، وهذا يثبت التدليس، وهذا مثل الذي يقول مثلاً: رواه البخاري، وهو صادق في أنه رواه البخاري، لكن عند الإطلاق يفهم أنه رواه البخاري في الجامع الصحيح، ويكون الحديث في (الأدب المفرد) أو في (التاريخ الكبير) أو في غيرهما من الكتب التي هي للبخاري، فهذا -أيضاً- نوع من التدليس إذا تعمده الإنسان، فحين يقول: رواه البخاري ويسكت، ولا يقول: رواه البخاري في (الأدب المفرد) يعتبر كلامه إيهاماً، ولذلك تجد رموز الجامع الكبير للسيوطي أو الصغير تختلف، فـ (خ) للبخاري، و (خد)