[ما يوجب الفرقة بين المسلمة المهاجرة وزوجها المشرك]
قوله تعالى: ((لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)).
يقول القرطبي: وهذا أول دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامُها لا هجرتُها، وهذا محل خلاف بين العلماء: فجمهور العلماء على أن الذي أوجب الفرقة هو إسلامها، فمتى أسلمت فإنها تنقطع العصمة بينها وبين زوجها؛ لأن الكافر لا يكون كفؤاً للمسلمة.
وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين؛ لأنها صارت في ديار الإسلام وهو باق في ديار الكفر.
يقول القرطبي: والصحيح الأول، يعني: أن الذي أوجب الفرقة هو اختلاف الدين بإسلام المرأة، وليس اختلاف الدارين، لأن الله تعالى قال: ((لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ))، فبين أن العلة هي عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدار، والله تعالى أعلم.
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها وقعت الفرقة على انقضاء عدتها، يعني: تمهل حتى تنقضي العدة لاستبراء الرحم، وهذا قول الأوزاعي والليث ومالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: تقع الفرقة باختلاف الدارين كما ذكرنا.
قوله: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)) قال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وإنما قيل ذلك للمؤمنين لأن العهد كان جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش في صلح الحديبية أن يرد المسلمون إلى المشركين من جاءهم مسلماً، فأبطل الله سبحانه وتعالى ذلك الشرط في حق النساء إذا جئن مؤمنات مهاجرات فامتُحن فوجدهن المسلمون مؤمنات، وصح ذلك عندهم بما ذكرنا، وأمروا ألا يردوهن إلى المشركين إذا علموا أنهن مؤمنات.
وقال بعض العلماء: إن النساء لم يدخلن أصلاً في عقد الحديبية، فالمشهور في الروايات: لا يأتيكم رجل منا، والأرجح -والله تعالى أعلم- أنه عام في الجميع، إلا أن هذا العموم خصه الله سبحانه وتعالى في حق النساء، فقد قالت طائفة من العلماء: إنه لم يشترط ردهن في العقد لفظاً، أي: لم ينص على حالة النساء، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال، فبين الله تعالى خروجهن من هذا العموم، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم؛ لأن حكم الشرع أن المرأة المسلمة لا يحل لها أن تكون تحت كافر، لذلك لا يصح أن ترجع إلى زوجها الكافر.
الأمر الثاني: أن النساء أرق قلوباً، وأسرع تقلباً من الرجال، فيسهل أن يفتنها المشرك عن دينها.
فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليه، فلو أن امرأة أتت المدينة تلتجئ إليها لأي سبب من الأسباب، ولم تزل باقية على شركها؛ فهذه ترد إلى مكة.
قوله: ((لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ))؛ لأن المرأة مؤمنة ومسلمة، وزوجها مشرك فتنقطع العصمة بينهما؛ ولأن الكافر ليس كفؤاً للمسلمة.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أمر أبي العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة، وكان هو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، فأثارت عواطف النبي عليه السلام، وذكرته بـ خديجة وأبكته.
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام شديد الوفاء لأم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها، وكان يكرم من يأتي من النساء ممن كان بينهم وبين خديجة مودة، ويقول وقد سمع صوت بعضهن: (قد كانت تغشانا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)، فهذا من وفائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها.
فلما رأى قلادتها تبذلها زينب في فكاك زوجها الأسير في بدر رق لها رقة شديدة، وقال للمسلمين: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا، ففعلوا، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه)؛ فوفى بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقاً، ومنهم من يقول: بعد سنتين وهو الصحيح؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين.