[كلام العلامة الشنقيطي في تفسير ثلة الأولين وقليل الآخرين]
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: ظاهر القرآن في هذا المقام أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية.
يعني قوله تعالى: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ)) في الموضعين، و (الآخرين) فيهما من هذه الأمة، يعني قوله: (وقليل من الآخرين) وقوله: (وثلة من الآخرين).
وأن قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ) في السابقين خاصة؛ لأن هذا واضح من السياق.
فقوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) هذا في السابقين.
أما قوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:٣٩ - ٤٠] فهو في أصحاب اليمين خاصة.
وإنما قلنا: إن هذا هو ظاهر القرآن في الأمور الثلاثة التي هي شمول الآيات لجميع الأمم، وكون قليل من الآخرين في خصوص السابقين، وكون ثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين لأنه واضح من سياق الآيات.
أما شمول الآيات لجميع الأمم فقد دل عليه أول السورة؛ لأن قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:١]، إلى قوله: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:٦] لا شك أنه لا يخص أمة دون أمة، فالسياق في يوم القيامة، فدل على أن قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:٧] عام في جميع أهل المحشر.
والأظهر أن السابقين وأصحاب اليمين منهم من هو من الأمم السابقة ومنهم من هو من هذه الأمة.
وعلى هذا فظاهر القرآن أن السابقين من الأمم الماضية أكثر من السابقين من هذه الأمة، وأن أصحاب اليمين من الأمم السابقة ليسوا أكثر من أصحاب اليمين من هذه الأمة؛ لأنه عبر في السابقين من هذه الأمة بقوله: ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ))، وقال قبلها: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ))، أي فعدد كبير من الأمم الماضية هم السابقون.
وهناك عدد آخر، لكنه عدد قليل من السابقين من هذه الأمة، بدليل قوله: ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)).
قال: ولا غرابة في هذا.
أي: حينما يقول الله سبحانه وتعالى في السابقين: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)).
قال: لأن الأمم الماضية أمم كثيرة، وفيها أنبياء كثيرون ورسل، فلا مانع من أن يجتمع من سابقيها من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من سابقي هذه الأمة وحدها؛ لأن السابقين هم الصفوة، فتعد إذاً صفوة الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى محمد عليه السلام، فالسابقون منهم أكثر من السابقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
أما أصحاب اليمين الذين قال فيهم: (وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) -أي: من هذه الأمة- فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جميع الأمم؛ لأن الثلة تتناول العدد الكثير، وقد يكون أحد العددين الكثيرين أكثر من الآخر مع أنهما كلاهما كثير.
وبهذا تعلم أن ما دل عليها ظاهر القرآن واختاره ابن جرير لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة، ففي الحديث: (والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة.
قالوا: الحمد لله، الله أكبر.
فقال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة) يعني: نصف أهل الجنة.
فهنا المقصود بالثلة النصف أو العدد الكبير، وهذه هي ثلة أصحاب اليمين التي قال الله فيها: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:٣٩ - ٤٠].
فقوله: ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) دل ظاهر القرآن على أنه في خصوص السابقين؛ لأن الله قال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).
ثم أخبر عن حال هؤلاء السابقين المقربين فقال: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)).
وأما كون قوله: {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:٤٠] في خصوص أصحاب اليمين فلأن الله تعالى قال: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:٣٦ - ٤٠]، والمعنى: هم -أي: أصحاب اليمين- {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:٣٩ - ٤٠]، وهذا واضح كما ترى.
انتهى كلام الشنقيطي، والله تعالى أعلم.