[إثبات مدنية سورة الحجرات وطريقة معرفة المكي والمدني]
وهذه السورة سورة مدنية بإجماع المفسرين، وآيها ثماني عشرة، وقيل: هي مدنية إلا آية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[الحجرات:١٣]، ولعل من استثنى هذه الآية استند إلى قول عبد الله بن مسعود: ما كان فيه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فإنه نزل بالمدينة، وما كان فيه ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) فإنه نزل بمكة.
وفي الحقيقة هذا ليس بمطرد.
يعني: أن عبد الله بن مسعود إن كان صح هذا عنه فلابد أنه كان يستثني؛ لأن هذه القاعدة ليست مطردة، لكن حقيقة الأمر أن السور المكية يغلب عليها النداء بقوله:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) كما في سورة يونس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:٢٣]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}[يونس:٥٧]، وقال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[يونس:١٠٤]، وقال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ}[يونس:١٠٨]، هذا في يونس، وفي سورة لقمان:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ}[لقمان:٣٣].
كذلك السور المدنية يغلب عليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، لأن غالب الخطاب كان موجهاً إلى المؤمنين بالفعل في مجتمع المدينة، فيغلب على السور المدنية الخطاب: بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كما في سورة البقرة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا}[البقرة:١٠٤]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}[البقرة:١٥٣]، وسورة البقرة مدنية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}[البقرة:١٧٨]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}[البقرة:٢٠٨]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى}[البقرة:٢٦٤]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}[البقرة:٢٦٧]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}[البقرة:٢٧٨].
إذاً: الغالب أن السور المكية يغلب فيها النداء: بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، والسور المدنية يغلب فيها النداء بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لكن لا توجد آية مكية فيها صيغة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لكن يوجد سور مدنية وفيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، كآيات سورة الحجرات هذه في قوله تعالى:((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى)) وفي سورة البقرة وهي سورة مدنية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[البقرة:٢١]، وفيها:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا}[البقرة:١٦٨].
وفي سورة النساء قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}[النساء:١]{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ}[النساء:١٧٠]{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ}[النساء:١٧٤].
كذلك سورة الحج سورة مدنية وفيها قوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}[الحج:١]، وقوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ}[الحج:٥].
وما ذهب إليه البعض من استثناء هذه الآية:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ}[الحجرات:١٣] إلى آخره اعتماد على النداء: بـ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في أن هذه الآية بالذات في السورة تعتبر مكية، فهذا قول غير صحيح.