[فهم الصحابة والسلف لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم)]
روى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (أنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:١٠٥] إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ثم لا يغيرونه يوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقابه) ومعناه أننا لا نستطيع أن نحفظ أنفسنا إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وروى الترمذي عن أبي أمية الشعياني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: (كيف تصنع بهذه الآية؟! قال: أية آية؟! قلت: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:١٠٥] قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً -أو: أما والله لقد سألت عنها أنا خبيراً- سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم) قال عبد الله بن المبارك: وزاد غير عتبة قيل: (يا رسول الله! أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم)، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وكذا رواه أبو داود وابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم.
وهذه الرواية -إن صحت- يفهم منها أن الآية تكون على ظاهرها في هذه الحالات إذا توافرت هذه الشروط، أي: (عليكم أنفسكم) إذا جزمتم بأن لا طائل من وراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي هذه الحالة عليك بخاصة نفسك والذين هم أقاربك، سواء من أهل بيتك أو أولادك أو إخوانك في الدين الذين يعظمون الشرع ويلتزمون الدين، فعليك بهم والزمهم، ودع عنك أمر العوام، فإن عامتهم يقعون في تلك الأحوال، يقول أبو ثعلبة رضي الله تعالى عنه.
(أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر) يعني: استمروا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إذا رأيتم هذه العلامات (حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة) يفضلون الدنيا على الآخرة (وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً) يعني: سوف تأتي أيام تشتد فيها غربة الإسلام، ويعاني المؤمن الموحد المطيع لله عز وجل ورسوله من الأذى كما يعاني الشخص إذا قبض على الجمر المتقد، وتخيل إنساناً إذا قبض على الجمر يمسكه بكل قوة دون أن يترخص في التخلي عن دينه وعن إيمانه، (فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر)، يعني: لا يؤذى إلا بسبب أنه متدين، ولا يسب إلا لأنه يطيع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يضاعف للصابر على هذا الأذى ثوابه، للعامل فيهن في هذه الأيام مثل أجر خمسين رجلاً، يأخذ أجر خمسين رجلاً من الصحابة، فهذا الصحابي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن كونهم خمسين من الذين يعيش بينهم أم خمسين من الصحابة فقال: (بل أجر خمسين منكم).
هذا لا يلزم منه أن يكون الواحد من هؤلاء أفضل من الصحابة، فإن مضاعفة الأجر في هذه الأشياء لا يمكن أن تفي بفضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، خاصة أعظم فضيلة على الإطلاق، وهي رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبته، فليس معنى هذا أنه يكون أفضل من الصحابي.
وعن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة:١٠٥] الآية، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: (ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟! فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك؛ فإن الله يقول: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:١٠٥] قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مه -يعني: اسكت- لم يجئ تأويل هذه بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، وفيه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة، وأوهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعاً، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض فأمرؤ ونفسه، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية) أخرجه ابن جرير.
وأخرج -أيضاً- أنه قيل لـ ابن عمر: (لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه -يعني: أيام الفتنة- فإن الله قال: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:١٠٥] فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب، فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب -يعني: مسئولون عن أن نبلغكم- ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم).
وقد ضعف الرازي ما روي عن ابن مسعود وابن عمر مما سقناه، قال: لأن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:١٠٥] خطاب عام، وهو -أيضاً- خطاب للغائبين مع الحاضرين، فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب؟! انتهى.
يقول القاسمي: ليس مراد ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما إخراج الحاضرين عن الخطاب، وأنه لم يعن بها إلا الغُيَّب، وإنما مرادهما الرد على من تأولها بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأعلماه بأنه لا يسوغ الاستشهاد بها في ترك ذلك والاسترواح لظاهرها إلا في الزمن الذي بيناه، وحاصله: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان ما قبلا، فإن ردا في مثل ذلك الزمن فليقرأ (عليكم أنفسكم) فهذا مرادهما، والله تعالى أعلم.