للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لطائف في قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل) الآية]

هنا بعض اللطائف: منها: إرادة التهديد بصيغة الأمر، فقوله تعالى: ((قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) فهذه مبالغة في الوعيد، وكأن المهدِّد يريد تعذيبه مجمعاً عليه، وكأن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما يبلغهم بما أمره الله به في قوله: ((قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) كأنه يريد أن يعذب هؤلاء القوم، وأن النية والقصد ثابت وأكيد في أنهم سيعذبون، فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه، وتسجيل بأن المهدِّد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتقصى عنه.

وقوله: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)) هنا لفتة طيبة جداً من اللطائف العظيمة في القرآن الكريم، فإن الله سبحانه وتعالى قال هنا: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ)) ولم يقل: فسوف تعلمون أن العاقبة ستكون لنا.

وإنما قال: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ)) وهذا فيه معنى الإنذار، وفيه -أيضاً- إنصاف في المقال وحسن الأدب، حيث لم يقل: العاقبة لنا.

وإنما فوض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا من الكلام المنصف، كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:٢٤] وهذا ليس فيه تنازل عن الحق، وإنما فيه نوع من التلطف بالخبر، حتى لو كان المخاطب كافراً؛ لأن المقصود هو جذبه إلى الحق، فلذلك حينما تقول له: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) يدفعه ذلك إلى حسن ظن بك أنك غير متعصب أو أنك منصف، وحينئذٍ يسهل جذبه إلى هذا الحق، فكذلك هنا قال: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ)) ولم يعين المقصودين الذين تكون لهم عاقبة الدار.

وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه محق، ومع ذلك فإن في الآية قطعاً بأن المنذر على يقين بأنه هو صاحب الحق.

فقوله: ((قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ)) يعني: ثابت على الإسلام الذي هو دين الله سبحانه وتعالى.

وفيه تبشير أيضاً بأن العاقبة لمن يثبت على الحق، فقوله: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) قال ابن كثير: وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلوات الله عليه، فمكن له في البلاد.

ولنعلم أن سورة الأنعام سورة مكية، ونزلت في الوقت الذي كان المسلمون يضطهدون فيه أشد الاضطهاد في مكة، وكان الصحابة يعذبون، وكان الإسلام غريباً، وكان هناك أذىً للرسول عليه السلام ولأصحابه، وعانى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه البلاء الشديد والاضطهاد في مكة المكرمة من كفار قريش، ومع هذا فإن هذه الآية نزلت عليهم في هذه الحال، فقال الله تعالى لنبيه: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:١٣٥]، فانظر كيف كان على ثقة من وعد الله سبحانه وتعالى بالتمكين في الدين، فهذا وعد الله له في فترة الاضطهاد والقهر، وقد أنجز الله له موعوده، فمكن له في البلاد، وحكمه في مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب بما في ذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك كان في حياته صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم فتحت الأمصار والأقاليم بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله تعالى عنهم أجمعين، كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:٢١]، وقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:٢٤ - ٥٢]، وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:١٣ - ١٤].

وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:٥٥]، وقد فعل تعالى ذلك بهذه الأمة، ولله الحمد والمنة.