تفسير قوله تعالى: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما)
قال عز وجل: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:١٠٧].
قوله تعالى: (فإن عثر) أي: إن اتبع بعد التحليف (على أنهما) أي: الشاهدين الوصيين (استحقا إثماً) أي: فعلا ما يوجبه من خيانة أو غلول شيء من المال الموصى به إليهما.
(فآخران يقومان مقامهما) يعني: رجلان آخران يقومان مقام الذين عثر على خيانتهما، أي: في توجه اليمين عليهما لإظهار الحق وإظهار كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما.
فهذان اللذان حلفا إن اتضح بعدما حلفا أنهما استحقا إثماً بخيانة أو غلول من المال، أو زعما -مثلاً- أن هذا المال قد أوصى به إلينا، أو أعطانا هذا القدر من المال قبل أن يموت مثلاً فإنه يتوجب على شخصين آخرين أن يقوما مقامهما في إظهار الحق، والحلف من أجل إظهار هذا الحق، وإبراز كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما للمال، إن عثر على أن الشاهدين الأولين قد استحقا إثماً، بأن زعما أن هذا المال أعطاه أياهما رجل ووهبه لهما.
(فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان) من ورثة الميت الذين استحق من بينهم الأوليان أي: الأقربان إلى الميت الوارثان له الأحقان بالشهادة، أي: اليمين، فـ (الأوليان) فاعل استحقا، ومفعول استحقا محذوف قدره بعضهم (وصيتهما)، وقدره ابن عطية (ما لهما وتركتهما)، وقدره الزمخشري: أن يجردوهما للقيام بالشهادة -لأنها حقهما- ويظهروا بهما كذب الكاذبين، وقرئ على البناء للمفعول، أي: من الذين استحق عليهم الإثم -أي: بني عليهم- وهم أهل الميت وعشيرته، فـ (الأوليان) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران من الذين استحق عليهما) وكأنه لأنه قيل: ومن هما؟ وسيأتي الجواب أنهما الأوليان.
أو هو بدل من الضمير في (يقومان) أو من (آخران)، ويجوز أن يرتفعا بـ (استحق) على حذف المضاف، أي: استحق عليهم ندب الأوليين منهم للشهادة.
وقرئ (الأولين) على أنه صفة لـ (الذين) مجرورة، أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها؛ إذ هذان يكونان من أقرباء الميت.
وقرئ (الأوليين) على التثنية وانتصابه على المدح.
وقرئ (الأوليين) تسمية أول نصباً على ما ذكر، كما في البيضاوي، والكلام فيه كثير، ونقتصر على هذا القدر في الإعراب.
قوله تعالى: (لشهادتنا أحق من شهادتهما) أي: لشهادتنا أحق بالقبول من شهادتهما، أي: لقولنا إنهما خانا وكذبا فيما ادعيا من الاستحقاق.
يعني أن هذين الاثنين اللذين كانا مع هذا الرجل في السفر وزعما أن هذا المال الذي كان معه هو لهما أو أعطاهما إياه، أو أوصى به إليهما، ونحو ذلك من أنواع الخيانة أو الغلول يؤتى بهما بعد صلاة العصر ليحلفا على هذه الوصية، فإن عثر على أنهما استحقا إثماً بخيانة أو غلول، وجاء اثنان من أقارب الميت بعد ذلك في نفس الوقت للحلف بعد الصلاة فإنهما يقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، أي: لقولنا أحق بالقبول من شهادتهما، فقوله تعالى: (لشهادتنا) أي: على هذين بأنهما خانا وكذبا، والمقصود: لقولنا: إن هذين الرجلين قد كذبا وخانا فيما ادعيا من الاستحقاق، هذا القول منا أحق من شهادتهما المتقدمة، لأنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم.
(وما اعتدينا) أي: وما تجاوزنا الحق فيما اتهمناهما فيه من الخيانة، فلم نتهمهما جزافاً.
(إنا إذاً لمن الظالمين) قوله: (إنا إذاً) يعني: إن اعتدينا (لمن الظالمين) أي: أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه، بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى، فسنكون ظالمين إن استعملنا الحلف باسم الله في ظلم هذين، أو من الواضعين الحق في غير موضعه.
ومعنى الآية أن الرجل إذا حضرته الوفاة في سفر فليشهد رجلين من المسلمين، فيقول: مال كذا أعطوه لفلان، أو الوصية هي كذا إلى آخره، فإن لم يجد مسلمين فرجلين من أهل الكتاب يوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه، فإذا قدما بتركته فإن صدقهما الورثة وعرفوا ما لصاحبهم قبل قولهما وتركا يخلى سبيلهم، وإن اتهموهما -أي: إن طعن الورثة في هذين الرجلين واتهموهما- رفعوهما إلى السلطان، فحلفا بعد صلاة العصر بالله: ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا.
فإن اطلع الأوليان الأقربان من الميت -من الورثة- على أن الكافِرَين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافِرَين باطلة، وأنا لم نعتد.
فترد شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء، هكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وابن جبير وغيرهما.
قال الإمام ابن كثير: وهذا التحليف للورثة، والرجوع إلى قولهما -والحالة هذه- كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القتل، فيقسم المستحقون القاتل، فيدفع برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة.
وقد ورد في السنة مثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) إلى آخرها قال: (برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولىً لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة معه جام من فضة يريد به الملك، وهو أعظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله -أي: يوصلا هذا المال من الفضة إلى أهله- قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، واقتسمناه أنا وعدي، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام -أي: أعطياهم ما بقي بعدما أخذا من المال ما أخذاه، ولم يذكرا شيئاً عن الجام، وأهله كانوا يعرفون أن الجام أعظم ما يملك- قال: فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره.
قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه، فحلف فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة:١٠٦ - ١٠٧] فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء).
هكذا رواه الترمذي وابن جرير عن محمد بن إسحاق به فذكره، وعنده: (فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله هذه الآية، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء) ثم تكلم الترمذي على إسناده، والحديث أصله في البخاري في كتاب الوصايا.
والجام: هو الإناء، وهو جام من فضة، وتخويصه أن يجعل عليه صفائح من ذهب كخوص النخل.
ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه ابن جرير بإسنادين صحيحين وأبو داود بإسناد رجاله ثقات عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا -اسم بلد- ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه، وقدما الكوفة لتركته ووصيته، فقال الأشعري: (هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا، ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، قال: فأمضى شهادتهما.
وقوله: (هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام) يعني: هذه الحادثة لم تتكرر بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام منذ حادثة قصة تميم وعدي بن بداء.