للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه)]

قال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف:٨].

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي: لا تقدرون أن تدفعوا عني شيئاً إن أصابني الله به، و (إن) منقطعة مقدرة بـ (بل) الإضرابية وهمزة الاستفهام المنوه به عن الإنكار والتعجب، فهو يدل على أن الافتراء على الله تعالى والكذب عليه جريمة أشنع من جريمة السحر، فهم يبدءون أولاً بقولهم: (هذا سحر مبين)، وكأن الله يقول: إنهم لا يقتصرون على قولهم: هو سحر مبين، بل يقولون ما هو أشد من ذلك، ثم يرد ذلك بصيغة الاستفهام الإنكاري التعجبي، كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، (أم) تفكك إلى بل والهمزة: بل أيقولون افتراه، فجريمة دعوى الافتراء أشد بلا شك من دعوى السحر.

ووجه كون الافتراء أشنع من السحر: أن الكذب -خصوصاً على الله- متفق على قبحه، حتى إنك ترى أن كل أحد يشمئز بنسبته إليه؛ بخلاف السحر فإنه إن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تكون معرفته من السمات المرغوبة.

(هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ)، أي: بما تخوضون في حقه من أنه سحر أو إثم.

(كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)، أي: يشهد لي بالصدق مما يؤيدني به من آياته وصدق مواعيده.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، لمن رجع منكم عن الكفر وتاب وآمن.

قال الزجاج: إنما ذكر ها هنا الغفران والرحمة ليعلمهم أن من أتى ما أتيتم به ثم تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به، كمثل قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:٣٨].

يقول العلامة الشنقيطي في تفسير هذه الآية الكريمة: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف:٨]: (أم) هذه هي المنقطعة، وتأتي بمعنى الإضراب، وتأتي بمعنى همزة الإنكار، وتأتي بمعناهما معاً الذي هو الإنكار والإضراب، وهذا هو الظاهر في هذه الآية الكريمة.

فـ (أم) هنا تفيد معنى الإضراب والإنكار معاً، والمعنى: دع هذا واسمع قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه، فإن السحر أهون وأخف، بل أيقولون افترى على الله الكذب؟! هذا معنى: (أم يقولون افترى على الله الكذب)، دع هذا السحر فهو أخف مما هو آت، ولم يقتصر على ذلك؛ بل قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه أن محمداً عليه الصلاة والسلام افترى هذا القرآن.

وقد أكذبهم الله في هذه الدعوى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:٣٨]، وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:١٣]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس:٣٧].

وقوله تعالى: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، أي: إن كنت أنا قد افتريت هذا القرآن على سبيل الفرض فأنتم لن تملكوا لي من الله شيئاً، والله عز وجل هو من يعاجلني بالعقوبة الشديدة إن أنا افتريت على الله كلاماً لم يقله سبحانه وتعالى؛ فلابد أنه معاقبي أشد العقوبة، وأنتم لا تملكون لي من الله شيئاً، ولا تقدرون أن تدفعوا عني عذابه إن أراد أن يعذبني على ما أحدثت من الافتراء، وقد بين هذا قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:٤٤ - ٤٧]، وهذا على سبيل الافتراض أن لو وقع ذلك بم كان سيعاقب الله من يفتري عليه هذا القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم قطعاً أنه معصوم من ذلك وحاشاه صلى الله عليه وسلم.

فقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:٤٤]، كقوله هنا في آية الأحقاف: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا).

وقوله: (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، يساوي قوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:٤٧]؛ لأن معنى قوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:٤٧]، أي: أنهم لا يقدرون على أن يدفعوا عنه عذاب الله له بالقتل، ونظير ذلك في المعنى قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة:١٧]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:٤١].

وأيضاً جاء معناه في قوله تعالى في سورة يونس: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:١٥]، أي: إني أخاف إن عصيت ربي بالافتراء عليه بتبديل قرآنه أو الإتيان بقرآن غيره (عذاب يوم عظيم).

وذكر الله تعالى مثل هذا عن بعض الرسل في آيات أخرى، كقوله سبحانه وتعالى عن صالح عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود:٦٣]، وقال تعالى عن نوح عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} [هود:٣٠].