تفسير قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً)
قال تبارك وتعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:٨٤].
(ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) لأن صلاة الجنازة شفاعة، ولا شفاعة في حق هؤلاء.
(ولا تقم على قبره) أي: لا تقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء.
وبعض المفسرين قال: (لا تقم على قبره) يعني: بالدعاء.
وبعضهم قال: (لا تقم على قبره) يعني: لا تقم بإصلاح مهمات قبره، من قولهم: قام فلان بأمر فلان، يعني: إذا كفاه أمره وتولاه، (ولا تقم على قبره) لا تتولى أمره، ولا تتولى إصلاح مهمات قبره.
وقال الشهاب: القبر مكان وضع الميت، ويكون بمعنى الدفن.
(إنهم كفروا بالله ورسوله) يعني: في أثناء ما كانوا أحياء كفروا في الباطن بالله ورسوله.
وقوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) جملة (مات أبداً) صفة؛ لأن الجملة بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال، فجملة (مات) هنا في موضع جر؛ لأنها صفة للنكرة، كأنه قيل: لا تصل على أحد منهم ميت.
(إنهم كفروا) يعني: في حالة الحياة كفروا في الباطن، لأن الكلام عن المنافقين: (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) أي: خارجون عن الإيمان الظاهر الذي كانوا به في حكم المؤمنين.
روى الشيخان في سبب نزول الآية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: ((اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)) [التوبة:٨٠]، وسأزيده على السبعين)، قال: إنه منافق! قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل آية: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا).
أما قوله: فسأله أن يعطيه قميصه يكفن به أباه، قيل: إن سر إجابته عليه الصلاة والسلام في إعطائه قميصه الذي سأله إياه أن هذا من حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال له: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:١٠]، فلما سأله القميص أعطاه.
وقيل: لأن منع القميص لا يليق بأهل الكرم.
وقيل: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أكرمه لمكان ابنه، وكان من الصالحين.
وقيل: لعل الله سبحانه وتعالى أوحى إلى النبي أنه إن فعل ذلك أسلم نفر من المنافقين.
وقيل: لأن الرأفة والرحمة كانت غالبة عليه صلى الله عليه وسلم.
لكن الراجح من ذلك كله هو ما ذكره القرطبي حيث قال: اختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لـ عبد الله فقيل: إنما أعطاه؛ لأن عبد الله كان قد كسا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصاً يوم بدر، وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر -على ما تقدم- وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه، فطلب له قميصاً فما وجدوا له قميصاً عليه إلا قميص عبد الله لتقاربهما في طول القامة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا، أي: يرد له هذا الجميل حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافؤه بها.
وقيل: إنما أعطاه القميص إكراماً لابنه وإسعافاً له في طلبته وتطييباً لقلبه، والأول أصح؛ لأن البخاري أخرجه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بـ العباس ولم يكن عليه ثوب، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه -يعني على مقاسه- فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً، وإني لأرجو أن يسلم لفعلي هذا ألف رجل من قومي)، كذا في بعض الروايات: من قومي يعني: من منافقي العرب.
والصحيح أنه قال: (رجال من قومه).
ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير: فأسلم وتاب لهذه الفِعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج.
وقال الرازي: كان المنافقون لا يفارقون عبد الله بن أبي فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف، والله تعالى أعلم.
وإنما قلنا: أسلم وتاب لهذه الفِعلة؛ لأن كلمة الفِعلة هي المرة الواحدة من العمل، لكن الفَعلة تطلق على الفَعلة المستنكرة، وشاهدها من القرآن {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:١٩].
وقال الحافظ أبو نعيم: وقع في رواية في قول عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين؟ ولم يبين محل النهي، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم، ولفظه: وقد نهاك الله أن تستغفر لهم يعني: في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:١١٣] وهذه الآية نزلت في مكة عند موت أبي طالب حينما قال له: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقاً، ووفاة عبد الله بن أبي في ذي القعدة سنة تسع بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك.
وفي رواية الإمام أحمد فيس مسنده قال عمر: لما توفي عبد الله بن أبي دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام عليه، يعني: لأنه بنى على الظاهر من تلفظه بالإسلام، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه تحولت حتى قمت في صدره، يعني: أراد عمر أن يحول بينه وبين القبلة، فتحول حتى أتى إلى جهة صدر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا: كذا وكذا، يعدد أيامه؟! قال: ورسول الله صلى الله وسلم يبتسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: (أخر عني يا عمر! إني خيرت فاخترت، قد قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت)، قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فرغ منه، قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم! قال: والله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل.
ورواه البخاري والترمذي.
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنك إن لم تأته لم نزل نعير به، أي: الناس سوف يعيروننا إلى الأبد بهذا.
وفي بعض الروايات: (إن لم تصل عليه يا رسول الله! لن يصلي عليه مسلم)، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال: أفلا قبل أن تدخلوه، فأخرج من حفرته إلى آخره.
وهذه الآية الكريمة هي إحدى المواضع التي وافق فيها عمر الوحي الشريف، وهذا من مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، أن الوحي نزل موافقاً لقوله في عدة مواضع: منها: أخذ الفداء عن أسارى بدر.
ومنها: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:١٢٥].
ومنها: آية أمر النساء بالحجاب.
ومنها: آية تحريم الخمر.
ومنها: آية تحويل القبلة.
ومنها: هذه الآية الكريمة.
فهذه من مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه.
وقوله تبارك وتعالى: (ولا تقم على قبره) ثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا دعي إلى جنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خيراً قام فصلى عليها، وإن كان غير ذلك قال لأهلها: (شأنكم بها، ولم يصل عليها).
وقيل أيضاً: إنما منع صلى الله عليه وسلم من الصلاة على أحدهم إذا مات؛ لأن صلاة الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك.
وقال السيوطي في قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم): في هذه الآية تحريم الصلاة على الكافر.
ويدخل في ذلك أيضاً: أن يذكر الكافر ويترحم عليه، فبعض الجهلة يذكر الكفار ويترحم عليهم، فهذا لا يجوز أبداً.
كذلك: لا يجوز الوقوف على قبره، وأما دفنه فجائز، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه، وقد اختلفوا هل وجوب الصلاة على المسلم، ووجوب دفنه يؤخذ من هذه الآية أم لا؟ فالذين قالوا: يؤخذ استدلوا بالمفهوم، قالوا: لأنه سبحانه وتعالى علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم، فقال: ((إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ))، فإذا زال الكفر وجبت الصلاة، ويكون نحو قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥] يعني: الكفار، فدل على أن غير الكفار -وهم المؤمنون- يرون الله ع