للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خلاف أبي ذر ومعاوية رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية]

اشتهرت محاورة معاوية لـ أبي ذر رضي الله عنهما في هذه الآية، فقد روى البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا بـ أبي ذر فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية رضي الله عنهما في هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة) فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لـ عثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل.

وسيأتي تفصيل هذه الحادثة.

يقول أبو ذر: ولو أمر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت.

ولـ ابن جرير في رواية بعد قول عثمان له: تنح قريباً، قلت: والله لن أدع ما كنت أقول، فأثبت عليه.

وروى أبو يعلى أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه كان يحدث ويقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريب، وهذا كان مذهب أبي ذر رضي الله تعالى عنه، فكان لا يجوز لأحد أبداً أن يبيت وعنده دينار أو درهم، إلا إذا كان عنده مبلغ يرصده لأجل سداد دين، أما غير ذلك فيوجب عليه أن ينفقه أولاً بأول في سبيل الله تبارك وتعالى أو في مصالح المسلمين.

فكان يقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم؛ لذلك فيما مضى كان بعض الشيوعيين يفرحون جداً بسيرة أبي ذر رضي الله تعالى عنه.

فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر، فكتب إليه عثمان: أن أقدم علي، فقدم.

قال ابن كثير: كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، وأنزله بالربذة وحده، وبها مات رضي الله تعالى عنه في خلافة عثمان.

وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده، هل يوافق عمله قوله، فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك، فأخطأت فهات الذهب فقال: ويحك إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به.

وقال الأحنف بن قيس: قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل، قال: فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً، قال: وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، فقال: إن هؤلاء لا يعلمون شيئاً إنما يجمعون الدنيا.

رواه مسلم وللبخاري نحوه.

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي ذر: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً، يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين).

قال ابن كثير: فهذا -والله تعالى أعلم- هو الذي حدا بـ أبى ذر على القول بهذا.

فـ أبو ذر أخذ مذهبه من قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً، يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين).

وأخرج الشيخان عنه قال: (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة! قال: فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت: يا رسول الله! فداك أبي وأمي من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم).

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه: (أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، ففضلت معها سبعة، فأمرها أن تشتري بها فلوساً قال: قلت: لو ادخرته لحاجة بيوتك، وللضيف ينزل بك، قال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل، أو حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل إفراغاً).

قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد في الآية على مانعي الزكاة.

وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي حيث قال: (هل عليّ غيرها قال: لا، إلا أن تطوع).

وبالجملة فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته، وقد ترجم لذلك البخاري وقال في صحيحه: باب ما أدي زكاته فليس بكنز، ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك) حسنه الترمذي وصححه الحاكم.

هذا؛ وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز، فقد روى البخاري في صحيحه أن أعرابياً قال لـ ابن عمر: أخبرني عن قول الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) إلى آخر الآية، قال ابن عمر: من كنزها ولم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال.

زاد ابن ماجة: ثم قال ابن عمر: ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى.

فهذا يشعر بأن الوعيد على الاكتناز -وهو حبس ما فضل على الحاجة عن المواساة به- إنما كان في أول الإسلام، ومذهب أبي ذر هو على ما كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة لما فتح الله الفتوح وقدرت أنصبة الزكاة.

ويشعر هذا أيضاً بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة، وجزم به ابن الأثير في تاريخه.

وهذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة بعد غزوة تبوك، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعاً.

قال ابن حجر: والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:٢١٩] يعني: ما فضل وزاد عن الحاجة، فكان ذلك واجباً في أول الأمر ثم نسخ.

وزعم بعضهم أن الذي حدا بـ أبى ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء، وقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يعتبرون الفيء لكافة المسلمين يأخذه المقاتلون وغيرهم، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين، فكلهم داخل تحت ذلك الحكم.

قال: والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام والوالي عليها من قبل الخليفة عثمان معاوية رضي الله عنهما، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال؛ أنكر عليه ذلك.

ولا يظن أن معاوية كولاة هذا الزمان يأخذ المال له ولأولاده، لا يظن هذا به أبداً، لكن كان أبو ذر يخالف معاوية؛ لأن معاوية كان يخزن المال في بيت المال للدولة وللمسلمين، بحيث يصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين، وكان أبو ذر مشهوراً بالورع، شديد الحرص على حقوق المسلمين، يقول الحق ولو على نفسه، فأخذ أبو ذر يتكلم بهذا الأمر بين الناس، وظل يعلنه وهو في الشام، واتخذ له حزباً من أهل الشام يساعده على الإنكار على معاوية؛ لكي يرد المال للمسلمين، ولا يخزنه في بيت المال ويأخذه للمصالح، وإنما ينفقه فوراً.

فكون له هذا الحزب أو التكتل، وظل يتكلم ويبين عدم الرضا بكنزه في بيت المال لأي حال من الأحوال، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين؛ لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين، وتابعهم على قولهم أناس كثيرون كانوا يجتمعون لهذا القصد سراً وجهراً، حتى كادت تكون فتنة، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه، فنفاه إلى الربذة؛ خوفاً من حدوث ما لا تحمد عقباه.

وهذا التصرف من معاوية ومن عثمان رضي الله عنه يعتبر حسماً للافتتان بين المسلمين، وإلا فإن كثيراً من الكتاب الذين لهم ميول للاشتراكية والشيوعية كانوا يتكلمون عن مذهب أبي ذر على أنه المذهب المعتمد، وأن هذه هي الشيوعية، وأن أبا ذر كان شيوعياً مع أن أبا ذر لم يسمع كلمة الشيوعية! فهذا من تمحلهم وكذبهم، وقد أخذهم الله، فالشيوعيون كانوا يلبسون على المسلمين ويخدعونهم بموقف أبي ذر، وأبو ذر كان مؤمناً بالله وباليوم الآخر، وهم ملاحدة يقولون: لا إله والحياة مادة، فأين هذا من ذاك؟! فالشيوعيون يظهرون موقف أبي ذر على أنها حركة ثورية ضد الحاكم أو الأمير أو الوالي، وهذا ليس بصحيح، فإ